الهوية والتنوع الثقافي

110

الهوية بمعناها العام هي مجموعة من العلامات والخصائص المتشكلة من أجناس مختلفة، تستقل بجوهرها عن الآخر، وفي حال غابت هذه العلامات والخصائص غاب الجوهر وانصهر مع الآخر، والهوية من خلالها يعرف الناس ذواتهم وأمتهم، وتتخذ اللغة والثقافة والدين أشكالاً لها، فهي لا تتصف بالأحادية والصفاء، بل تتجه نحو التعدد والتكامل في حال تم استخدامها بشكل صحيح، أما عكس ذلك فهي تتجه إلى التصادم في حال أهملت وأسيء فهمها، وكل هوية ترتبط بتاريخ يكون المسؤول عن تشكيلها، فلا هوية خارج إطار التاريخ سواء كان تعلق الأمر بالهوية العربية والإسلامية أو بالهويات الأخرى التي تتفاعل معها بشكل سلبي أو إيجابي.

وتمتاز الهوية العربية والإسلامية أنها متفاعلة مع بعضها البعض، حيث أن الهوية العربية تستمد ثقافتها من الهوية الإسلامية، والهوية الإسلامية تضفي صبغة أخلاقية ودينية على الهوية وعلى الثقافة العربية، ويكملان بعضهما البعض بشكل متداخل يجعل كل منهما منصهر مع الآخر.

وتحمل الهوية العربية الإسلامية قيم وسمات تميزها عن سائر الهويات، ومن أهم تلك السمات أنها هوية العقيدة والانتماء لها، يتم ترجمة مظاهر تشير إلى الولاء والالتزام بمقتضياتها قولاً وعملاً واعتقاداُ، وتتميز بأنه أشرف وأعلى وأسمى هوية قد يحملها الإنسان، فقد جمعت غايات الشرف وتنتمي إلى أكمل دين وأشرف كتاب، تم إنزاله بلغة عربية سليمة نقية بعيدة عن التكلف، كما أنها متميزة ومنفردة بمضمونها، هذا التميز الذي يعطي للمنتسبين لها مقومات بقائهم ويحفظ لهم ثقافتهم وأيديولوجيتهم ولا ينصهرون في غيرها، وقد شمل هذا التميز كافة جوانب الحياة بدءاً من العقيدة مروراً بكل أمور الحياة العملية، وانتهاءاً بالشكل الظاهر في الملبس والزي والهيئة، إلى جانب ذلك فإن من قيم الهوية العربية الإسلامية أنها تستوعب حياة كل مسلم وكل المظاهر الشخصية المتعلقة به، وتحدد لصاحبها بكل دقة ووضوح الهدف والغاية ووظيفته في الحياة، كما أن الانتماء لهذه الهوية والاندماج فيها لكل مسلم أياً كان مكانه أو شكله أو لغته التي يتحدث بها ليس أمراً اختيارياً، لكنه فرض عليه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وترتبط الهوية العربية الإسلامية بأبناءها ارتباطاً وثيقاً، إذ تجعل الولاء بين أتباعها والمحبة بين أصحابها وترتبط بينهم برباط الأخوة والموالاة لبعضهم البعض ونصرة بعضهم في السرّاء والضرّاء، كما تمثل مصدر العزة والكرامة لمن ينتمي إليها، وقد ذكر القرآن الكريم في آياته القيم الإسلامية وامتدحها في عدة مواضع، ومن مثل ذلك (أنها أحسن قولاً) و (أحسنُ عملاً)، وتتصف بصفة لا تتضمنها أي هوية أخرى وهي الكاملة المرضية من الله تعالى.

وكل أمة أو دولة تسعى لحماية وحفظ أتباعها وهويتهم وتحميهم من غزو الثقافات الأخرى، وهو من حق أي أمة أن تتجه هذا الاتجاه، خاصةً في عصر جرى فيه تداول الثقافات والقيم المختلفة والمتنوعة وأصبح بالإمكان اختراق أي أمة في قيمها وهويتها وثقافتها، وإحلال هوية جديدة مختلفة عن مضمون الهويات السائدة، وأصبح تداول الهويات الثقافية محاكاةً للعصر الحالي الذي تقدمت به التكنولوجيا، وألصقت صفة تبادل الثقافات والقيم بالتكنولوجيا الحديثة التي دخلت إلى كل بيت في كل المجتمعات.

في ظل التنوع الثقافي وصراع الهوية لا بد لنا كمسلمين أن نقف على خصائص وقيم هويتنا العربية والإسلامية التي تشكل فخراً وعزّاً لنا، فصفات الهوية العربية الإسلامية صفات ثابتة غير قابلة للتغير والتحول، وهي راسخة عبر الزمن غير قابلة للتبدل مهما كانت الظروف، حيث أنها مرتبطة بالدين الإسلامي الذي يتصف بالثبات، لكن هذه الصفة لا تنكر أحقية تبادل الثقافات والقيم إن كانت هذه القيم والثقافة متوافقة مع القيم الإسلامية ولا تخوض في غمار انتزاع الهوية العربية الإسلامية من المسلمين.

فالهوية العربية الإسلامية وعلى الرغم من ثباتها إلا أنها مرنة تقبل الهويات الأخرى، وتعمل على تبادل خبراتها وتراثها مع الأمم الأخرى، وتقبل انضمام أي هوية لها شريطة الالتزام بالمقومات والثوابت التي تنطلق منها، وعلى ألّا تكون الهويات المتداخلة مع الهوية العربية الإسلامية تهدف إلى التخريب والتدمير.

وفي وقت أصبح المجتمع العربي الإسلامي يضم العديد من الهويات المتنوعة التي قدمت إليه لظروف اقتصادية، أو ولدت داخل هذا المجتمع، أصبح من الضروري صياغة حدود ورسم خطوط للهوية العربية الإسلامية، ولتكون قادرة على عدم التأثر بما تقدمه الهويات الأخرى من أمور قادرة على هدم المجتمع العربي المسلم، ولتقوم هويتنا بخلق مجتمع عربي إسلامي جديد قادرة على تنظيم العلاقات ما بين هوياتها المختلفة، لتجاوز مخاطر الذوبان الكلي للثقافات والهويات التي تعيش ضمنه لا بد من المحافظة على مفهوم الهوية العربية والإسلامية وتخطي ألغام كل من مفهوم الخصوصية ومفهوم الكونية وتجنب انحرافاتهما الإيديولوجية، وأن تتماهى مع القوانين الكونية التي يأتي أصلها من القيم الإنسانية الأصيلة، لكن هذا التماهي لا يعني الذوبان الكلي في ثقافة الآخر السائدة، بل التفاعل الإيجابي والبنّاء، دون المساس بالمقومات الحضارية والتراثية للهوية العربية الإسلامية، بمعنى آخر الحصول على الإيجابيات من الهويات المتنوعة وترك كل ما يلوث الهوية العربية الإسلامية، والانعزال الكلي عن كل ما يؤثر على الهوية العربية الإسلامية مهما كان صغيراً، فهذا الأمر قد يتحول مع مرور الوقت إلى حدث كبير ينتج عنه تأثيرات كبيرة تمس الهوية العربية والإسلامية.

خلاصة القول أن موضوع الهوية العربية الإسلامية موضوع شائك ومعقد يجب تناوله وتدقيقه علمياً لإزالة الشوائب التي علقت به نتيجة التوظيفات والاستعمالات الإيديولوجية التي حولته إلى مفهوم واسع، ويجب عزل كل ما هو دخيل عليها وإثبات عدم نسبه لها، مع التأكيد على ضرورة الاستقاء من الهويات الأخرى والتبادل البنّاء معها.

التعليقات مغلقة.