المدن الكبرى وفقدان الشغف

6

منذ بزوغ فجر البشرية الأول على هذه الأرض، عَمد البشر للتجمع مع بعضهم البعض والاقتراب أكثر من أشباههم، وهذا التجمع لم يكن رفاهية، بل كان ومازال مَطلب بشري فِطري، والخاصية الاجتماعية في الإنسان هي نبتة زُرعت في غريزته، ومع تطور أنماط معيشة البشر وتواتر أطوار حياتهم، تحولت تلك التجمعات البشرية لمدن كبيرة، واسم مدينة جاء ليعبر عن حالة تجمع عدد كبير من الأفراد يزيد عن أعدادهم في القرى، وتسمى المدن أيضاً باسم الحواضر، والحواضر جمع حاضرة، والحاضرة هي عكس البادية، وتنمُّ عن انتقال الإنسان لنمط من المعيشة المتحضرة، والتي تمثل مجتمع أكثر تنوع: ثقافياً وعرقياً وإثنياً.

في حياة المدن تتعدد وسائل الرفاهية وكذلك تتوافر مختلف الخدمات الأساسية كالطبابة والتعليم والمرافق الحضرية كالمطاعم والفنادق وأماكن الترفيه. كانت المدن وما تزال تشكل الوجهة الأفضل للباحثين عن تطوير أنفسهم مادياً ومعنوياً، فغالبية أبناء القرى والبادية يُكملون دراستهم الجامعية في المدن، بل ويستقرون فيها، ويصبح مسقط رأسهم الأساسي عبارة عن مكان لقضاء عطلة الصيف، وزيارات الأقارب في المناسبات الرسمية فقط.

مع بداية الألفية الثالثة، والتي نعيش تفاصيلها اليوم، حدث هناك تغير كبير بل يكاد يكون الأعظم في تاريخ البشرية، هذا الحدث يتمثل بشبكة الانترنت التي غزت البيوت وجيوب الناس، فغالبية البشر اليوم لديهم هواتف ذكية، ويستخدمون منصات تواصل اجتماعي، بل أصبح العالم أصغر من القرية التي ذكرها صنَّاع الشبكة العنكبوتية. كان لهذا التطور دور كبير في تسهيل حياة الناس وتعارفهم وزادت من رفاهيتهم، وقد تحولت المدن لنمط أكثر من التمدُّن في حياتها اليومية.

مع كل هذه الحسنات التي جلبها التطور المدني_ الرقمي لحياة الناس في العالم عموماً وفي المدن خصوصاً، إلا أن فيه جانب مظلم لا يتم التطرق له كثيراً، ويمكن أن نسميه” التَغوُّل المدني”، حيث ساهم هذا التغول بزيادة أعباء ساكني المدن الكبرى مادياً ومعنوياً، ومن وجوهه القاتمة أنه يقتل جوهر الحياة عند الإنسان، ويجعله رهينة السعي لتحقيق قشورها دون عيش لُبِّها، ففي المدن الكبرى يعمل البشر بشراسة لتأمين مستلزماتهم المادية الكثيرة والتي أصبحت تُثقل كاهلهم، وخصوصاً لأولئك الذين يعملون بنمط الوظيفة وساعات عمل طويلة، وغالباً يصطدمون بجشع أصحاب المنشآت التي يعملون فيها، فالعامل منهم يعيش حالة سباق مستمرة مع كل شيء حوله، فيستيقظ مسرعاً، يتناول طعامه فيشعر أنه بلا مذاق أو نكهة، وذلك ليصل وسيلة النقل العامة المُستعجلة أصلاً، ويعمل بسرعة ضمن وقت دوامه لكي يعود باكراً إلى المنزل، ذاك المنزل الذي سيسابق وقت الليل فيه لينام سريعاً، حتى أن أحلام يقظته يعيشها بسرعة لكي يستفيق باكراً، ويضيف لحياته يوم جديد آخر مشابه لسابقاته، ولكن ما هو المقابل لكل هذا؟

المقابل يكون على شكل مسكن مُستأجر في حي جيد في المدينة، وأثاث منزل مرتفع الثمن يرضي ذائقة زواره القليلين أصلاً، ويدفع أقساط سيارته المميزة بنمط معين من الرفاهية والتي يباهي بها أقرانه ويجاري وسطه الاجتماعي النَهِم للمظاهر، وفي خضم هذا السباق كله ينسى الإنسان نفسه، فلا يشعر إلا وابيَضَّ رأسه، وأكلت الوظيفة طويلة الساعات من عمره سنيناً، وبلحظة تأمل واحدة يستطيع الإنسان أن يتلمَّس سنين عُمره التي ذهبت كالهباء في الفراغ، فيحزن لتذكر الأصدقاء الذين لم يراهم منذ زمن، والذين هم ليسوا أفضل منه حالاً، كذلك ستمرُّ أمامه وجوه الأقارب الذين لم يراهم منذ سنين، و سمع بوفاة أحدهم حديثاً من خلال حالة وضعها أحد أقاربهم على أحد برامج الدردشة، وهنا يشعر صاحبنا أن التغول المدني قد سحق جوهر حياته وحوله لذرات تتناثر في فلك قشورها، فيهمس لنفسه بندم وحسرة: يا تُرى هل ما يحصل استحقَّ ما كان؟

3 تعليقات
  1. أم جواد يقول

    المقال في الصميم، يلخص واقعنا للأسف بدقة

  2. عزة العمر يقول

    وصف جميل لحياة كل مغترب

  3. ياسر العمر يقول

    المشكلة أن معظم الشباب يغريهم الإزدحام والمسافات والمشي والمترو و …..وينسى هؤلاء أن الكثير من أوقاتهم تضيع في الطرقات بعيدا عن الأهل وعن الزوجة والأولاد وعن الأقارب والأحباب وفي النتيجة يصبح الإنسان في المدينة الكبيرة المزدحمة من حيث لايدري مجرد آلة .

التعليقات مغلقة.