الحقيقة ما بين التجربة والظنون

2

لقد حرصَ الآفلون من أهلِ العلم والثقافة على التشديد على ان التجربة هي الحل الأمثل والوحيد لسبر الأشياء وإعطاء القيمة المنطقية لها، والمراد إيصاله من تشديدهم على التجربة انه من غير المنطقي أن نحكم على الأشياء من شكلها او لونها أو حتى من انطباعنا الأول عنها، فالمظاهر خادعة والحقيقة تكمن في الجوهر، والذي لا بدَّ أن نتثبت ونتبيّن لكي نصل إليه.

من الآفات الاجتماعية التي نعيشها في زمننا هذا، زمن الألفية الثالثة التي تستحق أن يطلق عليها “زمن التواصل الاجتماعي السلبي” هي آفة الظنون، والتي انتقلنا بها من طور التعارف على بعضنا عن طريق الاستماع والتحدث والنقاش إلى موضوع تكوين الانطباع الكامل من صورة نراها على أحد البرامج أو تدوينة قصيرة في أحد المواقع، أو من معلومة استقيناها بناءً على نقل غير مضبوط بشكل قيل عن قال، فإن أعجبنا ما رأينا أو سمعنا وفقاً لأهوائنا، فإننا نقوم بمدح صاحبها بل ونثني عليه أمام مجتمعنا ويمكن أن نوصله لمرحلة القدوة، أمّا إذا كان العكس فإننا سنغدق عليه الآراء السلبية، ونتجاوز طور النقد الهدّام تجاهه لنصل لمرحلة الشيطنة، فيشيع عنه ما يحتمل أنه فيه من الذمائم ويحتمل لا، ونقوم بتجييش وسطنا المحيط (العائلة أو الأقارب أو زملاء العمل) ضدّهُ، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هنا كنّا منصفين تجاه النموذجين الذين أغدقنا عليهما المدح والقدح؟ الجواب المنطقي لهذا السؤال هو قطعاً لا، ويعود السبب في ذلك أننا أطلقنا هذا الحكم أو ذاك بناءً على “اللاشيء”، فكل ما نملكه تجاه تلك الشخصيات هو نظرة مسبقة لا تستند إلى واقع، فنحن لم نجالس هؤلاء ولم نستمع منهم ولم نُدنهم بناء على حجة أو موقف صدر منهم أو إقرار واضح بنينا عليه موقفنا بتلميع صورتهم أو طمسها أمام أنفسنا وأمام من يحيط بنا. إن لهذه الظاهرة الشائنة تداعيات كبيرة على الأفراد بشكل خاص وعلى المجتمع بعموميته، فهي تدخل الناس بباب النميمة المنهي عنها شرعاً بديننا الحنيف، كما أنها باب من أبواب الظلم المجتمعي فقد تَحرم إنساناً مجتهداً من تَبوءِ وظيفة يستحقها نتيجة للنظرة المسبقة بلا دليل لدى صاحب العمل تجاه هذا الشخص، كما أنها تُشيع التفريط حيث يحصل أحدهم على مكان هو ليس مؤهل ليكون فيه وذلك بناءً على إشاعة ملؤها المدح الغير مبني على واقع والتي وردت لمسامع صاحب القرار، كما أنَّ هذه الظاهرة تعمل على هدم الاندماج الصحيح للأفراد في المجتمع، فعندما يتمُّ استهداف أحدهم دونما بيّنة فإن ذلك يؤدي لتكوّره على نفسه وابتعاده عن الآخرين نتيجة الظلم الذي وقع عليه، وبتجمّعِ هذه الحالات يتولد لدينا مجتمع منعزل ضمن المجتمع الكبير، كما أن ضياع الحقيقة نتيجة وجهات النظر المعدّة مسبقاً تجاه الأشخاص ينمي ثقافة الريبة والشك بين أبناء المجتمع الواحد وكما قال عالم الاجتماع الشهير ابن خلدون: “إن الشك جحيم لأنه أسئلة ظنّية لا تتوقف”، ويصبح الحذر المبالغ فيه هو سمة العلاقات الاجتماعية بين الناس.إ

نَّ لهذه الظاهرة السلبية تداعيات كبيرة تمثّل مِعول هدم للنسيج الاجتماعي، ولها من السلبيات الكثير والتي تحتاج لحبرٍ كثيرٍ يسيل لكي ننصفها، ونحنُ قومٌ أمرنا الله تعالى بالتبيّن والتثبت وألّا نترك الأمور في الحكم لأهوائنا أو لمعلومة تأتي إلينا من هنا وهناك، وبناءً عليه فإن الوسيلة الأنجع للحكم على الناس هي السماع منهم وليس عنهم، وأن التجربة هي المنهج الذي نسبر به إمكانات الآخرين وصفاتهم وليس الآراء المسبقة المبنية على الأشكال أو الألوان، وكما قال الله تعالى: “إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم”.

 

 

التعليقات مغلقة.