القرّاء الذاتيون وقراءاتهم الفردانيّة

0

إنّ ما كُتب وقيل في القراءة على مرّ الأزمنة يصعب الإحاطة به. في كلِّ حقبة زمنيّة يُفرد للقراءة مؤلفات، وإنْ سعيت لمطالعة ما كُتب عنها، فإنّ عمرًا واحدًا غير كافٍ.
هناك قراءة خاصة وفردانيّة، وهذه القراءة ذاتيّة جدًا. أصحاب هذه القراءة قلَّ ما تجد لهم حضور في الجلسات النقاشيّة لكتاب، ولا الندوات، ولا أيّة نشاطٍ ثقافي. إنْ صدف لهم حضور، فإنهم لا يشاركون به من خلال التفاعل، إنهم يجيدون الإصغاء وتفعيل اللامرئي بوجودهم.
كذلك، لا يحفلون بالمراجعات كتابةً وقراءةً، يقرأون لأنفسهم أولًا، يقرأون بعيون مختلفة، دون قيد نقديّ، يديرون حواسهم عن أدوات النقد في القراءة، بل إنهم لايقرأون أيّ شيء يتعلق بالنقد.
يبحثون عن العزاء في القراءة، الجمال الذي افتقر له واقعهم الآفِل، يغورون لروح النص ويجسون نبضه، يتمترسون بالقراءة لصدِّ وبال الواقع، يلتحفون القراءة كمقاومة، يرتقون جروحهم بخيط الحرف.
لديهم همومهم الخاصة، بيد أنّ هذه الهموم ليست خاصة بالمعنى الشخصيّ، بل جعلوا من كلِّ ماهو غير إنسانيٍّ خالص همًّا لهم.
يقدّرون الكتاب حدّ التقديس، يتخذونه خليلًا. وهنا يصدق فيهم قول الجاحظ: “الكتاب هو الجليس الذي لا يُطريك، والصديق الذي لايغريك، والرفيق الذي لا يملُّك، والمستَمِح الذي لا يستَريثُك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ماعندك بالملَق، ولا يعامِلُك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق، ولا يحتالُ لك بالكذب”.
حتى لا نتعجل بالحكم ونرشقهم بالأنانيّة، إنهم يتشاركون قراءاتهم ويتبادلون الكتب والترشيحات مع من يشبههم، وهذا الشبه يعتمدون عليه من قوة الشعور.
إذا ما استمعت لحديثهم يومًا عن كتاب قد قرأته ستصاب بالدهشة لفرق الرؤيا الشاسع، يلتقطون بعيون مجهريّة تفاصيل دافعة على التأمل. يقرأون بحواسهم الحاضرة، حيث يجرون العقل للقلب حسب الحكمة الشرقيّة القديمة: “قف مع العقل في القلب”.
لهم أثر في الواقع، أثر لا يُرى، لكنه حاضر، ك”أثر الفراشة”.
يدفعهم إيمانٌ خاص بالواجب الأخلاقيّ، يخلّفون بصمات إيجابيّة بعيدًا عن الضوء الكاشف لهم.
قراءتهم التفاعليّة تكون ضمن إطار محدد، مايربطهم بالنص مختلف، مشغولون بأنفسهم أكثر، جلّ أسألتهم يطرحوها في الكتب وبذات الكتب يحفرون عن الأجوبة.
هؤلاء القرّاء، إذا ما فُرض عليهم التحدث ضمن إطار غريب عنهم؛ سترى الحرف يفرُّ منهم ويستوطنهم الحرج.
أظن، عن مثلهم قال القديس أوغستينوس: “إن لم يسألني أحد عن الموضوع، فإني عند ذلك أعرفه؛ أما إن سألني أحدهم وأنا أود شرحه له، فإني عندها لا أعرفه”.
ربما يحكم عليهم أنهم “حالمون، غرباء”، لكنهم موجودون

 

التعليقات مغلقة.