الشعبوية في أوروبا

8

الشعبوية الأوروبية في العصر الحديث

بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، عملت أوروبا على ضبط سلوكها الدموي ونزعتها للحروب، تلك النزعة التي أورثت أوروبا دمار رهيب في البشر والحجر، فمنذ معاهدة فيستفاليا في أكتوبر من العام 1648م وحتى تاريخ انتهاء الحرب العالمية الثانية، كانت هواية ملوك أوروبا شن الحروب والتوسع وقتل بعضهم البعض، وكانت الشعبوية الداخلية المحرك الرئيسي لهم، وامتدت هذه الحروب إلى مستعمراتهم في العالم الجديد، وخير مثال على ذلك هو صراع النفوذ الدموي الذي حصل بين فرنسا وبريطانيا في القارة الأمريكية والتي كانت قد اُكتشفت للتو.

كان المحرك الأساسي لتلك الحروب هو الدين والقومية، ومن هنا حاولت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية  محو هذا الإرث التاريخي المُضني والمخجل، فحاربت الشعبوية والتطرف الديني و العرقي، فقامت بتجريم الأفكار النازية والفاشية، وجعلت سيف القانون مسلط على رقاب معتنقيها، وشيئاً فشيئاً أصبحت تقوم بسنِّ  قوانين تُجرِّم العنصرية ضد السود، كما عملت على تحييد النزعة الدينية ضمن المجتمعات و إشاعة حرية اعتناق الأديان وعدم التعرض لأصحاب الديانات المخالفة للمسيحية، وساعدها في هذا الموضوع الشكل الجديد لنظام الحكم ومؤسساته فيها، حيث أبعدت الكنيسة عن دوائر صنع القرار، واكتفت فيها كمؤسسة روحية.

الشعبوية الجديدة في أوروبا

 

الشعوبية في أوروبا

عمل الأوروبيين فيما بعد على إنشاء مئات المنظمات الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني لمساعدة المواطنين في الدول التي تشهد حروب ونزاعات، كما فتحت أبوابها للجوء الإنساني والسياسي، ولكن كل المذكور سابقاً من الإصلاحات التي عملت الحكومات والمؤسسات الأوروبية عليها لم تكن كافية لمنع ظهور التيارات الفكرية المتعصبة، ومن بداية الألفية الثالثة بدأت الأحزاب اليمينية في أوروبا بالصعود وازدادت شعبيتها ودخلت الكثير من البرلمانات، و بعيداً عن الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة، ظهر هناك تيار آخر أكثر شعبوية وتطرف فكري في أوروبا، وساعد على ظهور هذا التيار عوامل عديدة منها أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م في أمريكا، والبروباغندا الإعلامية الغربية التي عززت ظاهرة الإسلاموفوبيا، وكذلك ظهور تنظيمات راديكالية إسلامية في البلدان التي غزتها أمريكا بالاشتراك مع أوروبا.

الربيع العربي وصعود اليمين

لعل الحدث الأكثر وضوحاً والذي ساعد على طفو هذا التيار على السطح هو ظاهرة الربيع العربي وقيام الثورات في بلدان عربية مختلفة، وهو الأمر الذي أدَّى لموجات لجوء باتجاه القارة العجوز، ويظهر من هذا التيار أنه اتجاه يميني شعبوي صاعد في أوروبا ويمكن أن نعرفه بأنه: عقيدة يمينية متطرفة، تدّعي أنَّ دول أوربا ذات هوية بيضاء من حيث لون الناس، ومسيحية من حيث اعتقاداتهم. ويمكن القول أنهم جيل أوروبي جديد مشبع بالكراهية تجاه الأوروبيين الملونين بشكل عام، وضد العرب والمسلمين بشكل خاص، وهم الشكل المتطور عن الفاشية الأوروبية التي ظهرت في بدايات القرن العشرين.

أصبح هذا التنظيم اعتيادياً وشرعياً في دول أوروبا، وله مقرات إقليمية كثيرة في دول مثل فرنسا وإيطاليا والنمسا وألمانيا، والملاحظ في السنوات الأخيرة ازدياد أعداد المنتمين لهذه الحركة بشكل مضاعف وذلك حسب تصريحاتهم وتقديرات المنظمات الحكومية المعنية.

يختلف هذا التيار المتشبع بفكرة الهوياتيّة الأوروبية عن الشكل المعتاد لليمين المتطرف الكلاسيكي في أوروبا من حيث استخدامهم للتقية في تعاملهم العلني، حيث يسوقون لأنفسهم على أنهم مجموعة من الوطنيين تجمعهم القيم والثوابت الخاصة بالهوية الوطنية لدول أوروبا، بل أكثر من ذلك يقومون بفصل الأعضاء الذين يجاهرون بالعنف او التطرف ، ويخفون عن الإعلام الوجه العنصري العنيف لهم، وقاموا بالعديد من الأنشطة العنصرية الخطيرة كمنع قوارب إنقاذ المهاجرين في البحر، وسد الطرق التي يتبعها المهاجرين للوصول لأوروبا، والاعتداءات الجسدية واللفظية على المهاجرين أو الأوروبيين من أصول عربية وافريقية.

الشعوبية في أوروبا

لا يخفي أتباع هذا التيار توجهاتهم العنصرية العنيفة، حيث تكشف التقارير عن قيامهم بأعمال عنف ضد المهاجرين، ويشجع رموزهم على اقتناء السلاح للقيام بأعمال إرهابية وتصفية ضد المسلمين والعرب في حال استلام الأحزاب اليمينية للسلطة، كما يدعون إلى عمليات تطهير عرقي سواء بالقتل او التهجير ضد المسلمين والعرب، وهم من رافضي التعددية الثقافية في المجتمعات الأوروبية، والكثير من متبعي هذه الحركة هم من النازيون الجدد، ويعتبرون قدوتهم رموز إجرامية أوروبية تاريخية، كالزعيم النازي السابق هتلر.

النموذج الشعبوي في فرنسا

لم يعد هدف أتباع هذا التوجه إثارة الشغب والعنف الموجه ضد المخالفين باللون والدين  كما سابقاته من الحركات المتطرفة الأوروبية من خارج السلطة فقط، بل تسعى اليوم هذه الحركة للوصول للسلطة، إذا لم يكن عن طريق الانخراط المباشر بالسياسة، فيكون عن طريق الأحزاب التي تمثل واجهة سياسية لهم، كما الحال في فرنسا مع الحزب اليميني المتطرف ” حزب الجبهة الوطنية” بزعامة واحدة من أشهر رموز اليمين في أوروبا ” ماريان لوبان”، ويمثل هذا الحزب في حقيقته كما أظهرت بعض التقارير بأنه واجهة سياسية لهذا التيار، ولقيادات هذا التيار الشعبوي سطوة ونفوذ داخله، فمن أعضاء التيار المتطرف نواب عن هذا الحزب وكذلك يقدمون له خدمات حماية الشخصيات الحزبية المرموقة، كذلك الإشراف على شبكات التواصل الاجتماعي الخاصة به.

الشعوبية في أوروبا

عند ذكر شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام وجب التنويه للدور الهام الذي ساهمت به العولمة في مساعدة هذه التنظيمات المتطرفة على الصعود والوصول للمشهد العام، ففرع العولمة الأقوى والمتمثل بالثورة الرقمية والاتصالات قدّم لهذه الحركات منصات إعلامية أكثر رواجاً ومرونة من الوسائل التقليدية المعروفة، كذلك لو نظرنا للوضع الاقتصادي العالمي في العقد الأخير، سنلاحظ أن العولمة خلقت نمط اقتصادي مشوه من الطبقات الاجتماعية نتيجة سياساتها التي عملت على جعل التباين الاقتصادي كبيراً في المجتمع، ومن المعروف أن المجتمعات تميل نحو أقصى اليمين عند فشلها في مواجهة التحديات الاقتصادية الطارئة.

التعليقات مغلقة.