تزاوج الأماكن والوجوه… الأطلال

21

الأطلال في التراث العربي:

كانت الأطلال دائماً حاضرة في التراث العربي، ذاك التراث الذي غًزُرت فيه أحاديث الهوى، ووصلتنا أخبار الهائمين من أبطاله، فأضعنا نحن والتاريخ أسماءهم، وأُسقطت عنهم كُناهم وتكنّوا بأسماء محبوباتهم، أما الأسماء التي أورثها لهم أهلهم انتفضت وتحولت لصفة الجنون، فهذا مجنون عبلة، وذاك  مجنون ليلى ، وما أكثر المجانين الذين لم يذكرهم التاريخ، فولدت قصصهم وماتت في مكان ولادتها دون أيِّ ضجيج.

كل هؤلاء المجانين كانوا يشتركون مع بعضهم بقاسم مُشترك أكبر، وهو الفشل في الحب والجلوس على الأطلال، حيث كانت الأطلال بمثابة العزاء لهم، يدارون خيباتهم من مراقبتها، فهي جدران الذاكرة التي تحيلهم لآثار الهوى وممراته الضيقة حيناً والمتسعة بقدر السماء حيناً آخر، والغريب في الأمر أن هؤلاء الآفلون أورثوا هذه الصفة لمن تبعهم من الأحفاد، لكن أحياناً أظن أن هذه الصفة مرتبطة باللغة، فيتشابه فيه الكثير من الناطقين بالضاد…. يا لسطوة هذا الحرف على القلوب، فهو بالرغم من قسوة نطقه إلا أنه يُلين القلوب، ويُذيب حشاشة الناطقين به شوقاً وشغفا.

كانت الوجوه تسيطر على الأماكن، فتمنحها رونقاً خاصاً بها يختلف عن غيرها من شبيهاتها، فالمُفارق يرى الأماكن بعين أخرى غير التي يرى بها الناس، فلماذا يلجأ أغلب العشاق إلى الأطلال وأماكن اللقاء السابقة؟ قد يكون المنطق نقيض الحب، فيلجأ المفطورٌ قلبه للطلل كمحاولة منه لينحدر أكثر في حالة من المشاعر الحادة  التي تجعله يعيش شعور قرب أٌنثاه المنشودة بنفس العنفوان لكن بطريقة سلبية يَروي بها ألسنة الحنين التي تتلظى في جوفه، أو هي محاولة يائسة لاستنساخ الماضي أو امتلاكه تعزيةً لنفسه عن مرارة الحاضر، فالمحبون يجنحون للحُلم، والحالمون يعيشون في عالمهم الخاص، ينسجون الخيال فيه من مواقف وأحداث تسير كما تشتهي أنفسهم، وتتوافق مع مكنونات رغباتهم… هي مجرد محاولات يائسة وهذيان حالم لرثاء الماضي، وأمنية لاستحالة الحاضر لماضي آخر.

نوستالجيا  متناقضة مع الواقع:

لا أدري لماذا يلجأ الإنسان لتعذيب نفسه! إن زيارة أماكن لقاء الأمس وفراق اليوم، واستحضار وجوه الراحلين في كل مكان جمعهم بيوم ما، هو عملية مليئة بالكآبة والحزن، أحياناً تبدو كمحاولات جَلد للذات، ولكن نحن لماذا نحب أساساً؟ ما الذي يدفعنا لتلك المصيدة؟ هل هو شعور لذِّية الحب الذي لا يضاهيه أي شعورٍ آخر شغفا؟! هذا الشعور الأقرب للسكر بلا خمر يورثنا ندبةً يمكن للجميع تلمسها على جبين أرواحنا عند الفراق، ندبةً تنزُّ حنيناً موجعاً عند كل ذكرى، وبغض النظر عن تنوع الأسباب فالفراق قادمٌ لا محالة.

ما زلتُ هناك:

الأطلال والشوق

ما زلت أقلِّب طرفي في كل مكانٍ جمعنا، أكاد أجزم بعدم تصديق هذا الفقد، فأقول أحياناً أنه حلمٌ تشابكت خيوطه مع الواقع فأرداني حيرةً وضَعف يقين، بل كابوسٌ يشبه الجاثوم ومنتهى رغبتي أن توقظني منه رنَّة منبه أو ضجيج الشارع حولي، لقد كانت لحظات عظيمة وأكبر من أن يتسعها شيء، كانت سعادة مشغوفة لم يتحملها قلب القَدر، فَحنقَ غيرةً، وأمر ألا يكتب لها البقاء، تباً لي كلما ناظرت مكاناً أجد وجهك قد سبقني إليه، أو استوطنت تفاصيلك جنباته! هذه شيزوفرينيا تصيب عينَي، فكلما يممت وجهي شطراً تسبقني إليه! أرجوك إن لم تعد…. أعد لي أحداقي والمكان.

تعليق 1
  1. إبراهيم عمر يقول

    كم لامس هذا النص العميق قلبي و استحضر ماضيي الكآيب وأسترجع في ذاكرتي الأماكن التي كُنت ازوها عندما كنت اشتاق لها أٌناظرٌ الطرقات التي كنا نسيرها معناً في ليالي الحب

التعليقات مغلقة.