البناء الاجتماعي للجريمة والسلوك المنحرف

120

مقدمة:

ما هو البناء الاجتماعي للجريمة:

الجريمة في كافة المجتمعات هي ظاهرة لها أبعاد اجتماعية وخلقية وتدخل العوامل الاقتصادية كمحرك لها في كثير من الأحيان، وبعد كل ذلك تدخل في نطاق الأحوال القانونية التي تحدد ماهية هذه   الجريمة  وتصنيفها، وذلك من أجل تحقيق العقاب عليها، وطالما أن الإنسان موجود على كوكب الأرض فإن الجريمة ستظل حاضرةً، وذلك أن الجريمة في نظر البعض إنما انعكاس للصراع القائم بين القيم الاجتماعية والضغوط التي يوجهها المجتمع نحو أفراده، وهناك من ينظر إلى أن الجريمة والسلوك المنحرف إنما يأتي نتيجة حالة من الصراع بين المجتمع وأفراده، في وقت كانت الجرائم والسلوكيات المنحرفة في العصور السابقة تنسب إلى المجرم نفسه، وإلى روحه الشريرة التي تدفعه نحو ممارسة السلوك الإجرامي[1].

لكن هناك من ينظر من علماء الاجتماع إلى أن الجريمة بأنها تعبير مخالف للتقاليد والأعراف الاجتماعية السائدة داخل المجتمع، وعدّوا الأعراف الاجتماعية بأنها ضغوط وتقييد لحرية الفرد وسلوكه في الكثير من الأفعال التي يرغب بالقيام بها، حيث أن الجريمة بمفهومها العام تعبر عن أفعال يمارسها الفرد والمجتمع سوياً، ومن هنا تم سن القوانين والتشريعات التي تهدف إلى الحد من السلوك الإجرامي لدى المجرمين، وكي يكون العقاب رادعاً لهم عن ارتكاب الجرائم والسلوك الانحرافية[2].

تطرح هذه الورقة البحثية إشكالية غاية في الأهمية، وهو البناء الاجتماعي للجريمة والسلوك المنحرف، حيث أن البحث في هذا الموضوع يشمل البناء الاجتماعي لمرتكبي الجريمة والسلوكيات المنحرفة، فالمشكلة التي تدرسها الورقة البحثية هي العلاقة ما بين البناء الاجتماعي للفرد والجريمة والسلوك المنحرف لديه، لارتباط هذا البناء بالتنشئة الاجتماعية المباشرة على الفرد، فالفرد يستمد عاداته وقيمه من محيطه الاجتماعي، إلا أن هذه القيم قد تتغير مع مرور الوقت خاصةً في حال أصبح الفرد معرضاً للضغوط ممن حوله، وفي حال كانت العلاقة بينهم وبين من حولهم سيئة، فإن ذلك ينعكس بشكل مباشر على سلوكياتهم وعلى تفكيرهم، ويصبح حافزاً لاتباع نهج انحرافي في سلوكياته قد تدفعه إلى ارتكاب الجرائم، ويأتي ذلك تفريغاً لحالته النفسية التي تتأثر بالوضع الاجتماعي حوله، فكثير من المجرمين ينتمون حسب الإحصائيات التي أجريت في فرنسا إلى أسر مفككة، كما توصلت الدراسات التي أجريت في مصر أن التفكك المعنوي للأسرة عاملاً رئيسياً في سلوك الانحراف والجريمة لدى الكثير من الجانحين، وأن العلاقة السيئة مع والديهم تدفعهم لارتكاب الجرائم كتعويض للنقص أو للفت الانتباه إليهم، أو رغبةً منهم للانتقام من محيطهم الاجتماعي الذي يحملونه سبب الضغوطات التي يتعرضون لها[3].

وسيتم استعراض المشكلة الحالية عبر استخدام المنهج التحليلي، والذي يعتمد على جمع البيانات المتوفرة ومن ثم تحليل مضمونها، ومن ثم تصنيفها وتفسيرها وفق الأهمية، ووضع النتائج التي يتم استخراجها من تلك المعلومات، وبناء توصيات عليها، ويساعد المنهج التحليلي على دراسة الظاهرة كما هي في الواقع، ويقوم بوصفها بشكل دقيق، ويعبر عنها بطريقة كمية أو كيفية، وهو ما يساهم في تقديم معلومات واضحة حول الظاهرة المدروسة بشكل حيادي وموضوعي[4].

 

العوامل الاجتماعية للجريمة والسلوك المنحرف:

إن البناء الاجتماعي للجريمة يتشكل من الظروف المحيطة بالشخص، وتقدم تمييزاً لشخصه عن غيره، وتنشأ بين الشخص وهذه المجموعة المحيطة به مجموعة من العلاقات الوثيقة، ومن العوامل الاجتماعية المؤثرة في حياة الفرد، ما يلي:

  1. دور الأسرة في البناء الاجتماعي للجريمة:

وتعتبر المؤسسة التربوية الأولى التي يعيش فيها الإنسان منذ ولادته، وتشكل الأسرة المحيط الاجتماعي الأصغر، وتساعد على صقل شخصية الفرد وتصقل قيمه وتغذيه بالأفكار التي تتناسب مع المحيط الاجتماعي الأكبر وهو المجتمع، وهي التي تساعد الأبناء على تلقي أفكار آبائهم ويتلقاها الأبناء دون تفكير في صحتها أو عدم ملائمتها لشخصيته، ومع مرور الأيام تصبح هذه الأفكار متشبعة داخل ذهن الشخص[5].

ويعد الاهتمام بالعوامل الأسرية وعلاقتها بالسلوك الإجرامي امتداداً للأفكار التي تصور الجريمة على أنها ظاهرة اجتماعية، فالوسط الاجتماعي المتمثل بالأسرة أحد أهم العوامل التي تدفع الأفراد لارتكاب الجريمة، ويعد وجود الأسرة عاملاً هاماً لأن ينشأ الأفراد داخلها نشأة سوية سليمة، حيث أن وجودها يمنح الأفراد فرصة التدرب على الحياة الاجتماعية وفق ما يضعه المجتمع من قيم ومعايير أخلاقية، ويتم نقلها إلى الأفراد الناشئين داخل الأسرة من أجل ضبط سلوكهم الفردي بما يحقق مصلحة المجتمع ككل[6].

وفي ظل تراجع دور الأسرة في الوقت الحالي أكد أميرجين أن هناك عامل مهم يلعب دوراً كبيراً في جنوح الأفراد، فتصرف الأفراد يكون أكثر احتمالية في حال خرجوا من أسرة مفككة ومتعرضة للتصدع وفي حالة وجود حالة من التوتر داخل الأسرة، ومن الصور الأخرى المرتبطة بالجريمة والسلوك المنحرف لدى الأفراد عدم التماسك والإحباط الاجتماعي داخل الأسرة، وهو ما يؤدي إلى الانحراف والتوجه نحو الجريمة[7].

  1. دور المدرسة والتعليم في البناء الاجتماعي للجريمة:

من المهام والواجبات التي تقوم بها المدرسة أنها تجعل منها مؤسسة وقائية مهمتها حماية الأطفال والشباب، ويتطلب ذلك تطبيق مهمتها التربوية بصورة كاملة متكاملة، وتتمثل المهمة الرئيسية في إيصال المعارف والمهارات والمساهمة في تقديم الدعم للاتجاهات والقيم الاجتماعية المرغوبة[8].

وتؤدي البيئة المدرسية دوراً هاماً وحيوياً في الحفاظ على بناء المجتمع واستقراره، كما أنها أحد الأنساق الاجتماعية التي تقوم بنقل المعايير والقيم، ولا تقف مهمتها عند نقل العلم والمعرفة، بل لها دور تربوي في تنشئة الأطفال، إضافةً أنها تعد بيئة آمنة لحماية الأفراد المنضمين إليها من الانحراف، وذلك عبر تطبيق العديد من النشاطات الوقائية التي تمارسها تحت إشراف متخصصين، وتقوم بتعزيز السلوكيات الجيدة، والتأكيد على القوانين والقواعد الاجتماعية، وتعزيز السلوكيات الحميدة التي تقود الأجيال نحو نبذ السلوكيات المنحرفة والجريمة بكافة أشكالها[9].

البناء الاجتماعي للجريمة
التنمر في المدارس سلوك منحرف

أما في حال لم تؤدي المدرسة بدورها التربوي والتوجيهي في إطلاع الشباب فيها على خطورة الجرائم والسلوكيات المنحرفة، فإن ذلك يُسقط عنها أهميتها في المجتمع، فالمدرسية تُكمل عمل الأسرة في مسار التوعية، وفي تعزيز القيم الاجتماعية، فهنا لا شك أن السلوكيات المنحرفة ستتسرب إليهم، خاصةً في حال كان الوضع الأسري مصاب بالهشاشة أو التفكك[10].

  1. دور رفاق السوء في البناء الاجتماعي للجريمة:

هناك أسباب تتعلق بالصحبة ورفقاء السوء والتي تدفع الفرد إلى ارتكاب الأفعال الإجرامية والسلوكيات المنحرفة، ويأتي ذلك نتيجة اختلاط الفرد وتجاوبه وتفاعله مع محيطه من أصدقائه، خاصةً من أصحاب المنطقة السكنية الواحدة، أو زملاء المدرسة، ممن لديهم ميول لارتكاب سلوكيات منحرفة تؤدي بهم إلى ارتكاب الجرائم، حيث أن الفرد يتأثر بأصدقائه ورفاقه أكثر من تأثره بمحيطه الأسري ومدرسته، وتلعب الصحبة دوراً في التنشئة الاجتماعية، حيث ان الأفراد يحاولون الوصول إلى توقعات الرفاق حول سلوكهم، ما يجعل الفرد مدفوعاً بهاجس المساواة بينه وبين رفاقه من أصحاب السوء لنيل الثقة منهم والحصول على مكانة له بين جماعته، وهناك فئة كبيرة من الشباب يرتكبون الجرائم من باب التقليد في ارتكاب أنماط سلوكية إجرامية[11].

  1. دور البيئة السكنية في البناء الاجتماعي للجريمة:

هناك عدة دراسات أكدت أن البيئة الاجتماعية و السكنية تعتبراً عاملاً مهماً في الانحراف، إذ أن طبيعة السكن وخصائصه تمثل بنية الوحدة السكنية للأسرة، ولها دور في سلوكيات أبناء الأسرة، إلى جانب المسكن ذاته ومواصفاته من حيث ضيق مساحته أو اتساعها، وأرجعت تلك الدراسات أن الفرد يكتسب قيمه الشخصية وعاداته من الجماعات التي يعيش معها، وذلك لأن الإنسان يحب الاختلاط مع الجماعة بطبعه، وهي وسيلة من أجل إشباع رغباته وحاجاته التي من خلالها يكتسب خبراته ومهاراته، والبيئة السكنية لها دور واضح في بروز الجريمة لدى الأفراد والجماعات، وذلك لأنها ترتبك بمجموعة من العوامل المادية والبيئية التي تحيط بالإنسان، وهناك تأثير نفسي وجسدي على الفرد من مكان سكنه، وهو ما ينعكس بتصرفاته وسلوكياته التي يقوم بها مع غيره[12].

  1. دور البيئة الترفيهية وأوقات الفراغ في البناء الاجتماعي للجريمة:

إن انشغال الإنسان بالعمل أو الأنشطة المتعلقة بحياته المهنية وعدم المشاركة في نشاطات ترفيهية تخرجه من ضغط العمل، سيؤدي إلى فرض حالة من عدم الرغبة في الاستمرار بإنجاز عمله، ويقتل لديه روح الإبداع، وترتفع لديه دوافع ارتكاب الجريمة والسلوك المنحرف، للخروج مما هو فيه من ضغوطات، كما أن النشاط الترفيهي الذي يقضيه الإنسان خلال وقت فراغه له علاقة بشكل مباشر وغير مباشر في التوجه نحو السلوك الإجرامي، حيث أن شعور الإنسان بالفراغ الدائم يخلق لديه الشعور والهاجس للقيام بأعمال إجرامية أكثر مما هو عليه حال الفرد الذي يعد وقت فراغه معتدلاً[13].

  1. دور بيئة العمل في البناء الاجتماعي للجريمة:

تتأثر سلوكيات الشباب سلباً أو إيجاباً ببيئة العمل، وذلك تبعاً لسلوكيات زملائهم في العمل، لكن ما يميز هذه الصلة التي تربط بينهم أن زملاء العمل مفروضون من قبل صاحب العمل أو إداراته، وليس بيد الإنسان اختيارهم، وفي الأعمال التي تتطلب الاحتكاك المباشر مع أنماط كثيرة من الناس، مثل العمل في الأماكن العامة أو المقاهي أو التجارة في الشوارع أو المطاعم، فإن ذلك يخلق الدافعية نحو السلوك المنحرف لدى العاملين في مثل هذه المجالات، كتعاطي المخدرات أو السرقة أو شرب الخمور أو لعب القمار، وهو ما يؤدي بعد ذلك إلى ارتكاب جرائم أشد من ذلك.

النتائج :

خلصت هذه الورق البحثية  إلى أن هناك علاقة مباشرة بين البناء الاجتماعي والمحيط الاجتماعي بالفرد وبين الجريمة والسلوك المنحرف، فالفرد الذي يعيش في بيئة مشجعة على الانحراف لا بد أن يتأثر بها، والفرد الذي يعيش في أسرة مفككة يكون عرضةً للوقوع في السلوكيات المنحرفة أكثر من غيره ممن يعيشون في بيئات أكثر تماسكاً، وهناك عوامل أخرى ترتبط بالمحيط الاجتماعي خارج المنزل ويتمثل بزملاء الدراسة والصحبة السيئة، فاختيار هؤلاء يقع على عاتق الفرد دون غيره، وطالما أن البيئة التي ينشأ بها منحرفة فإن الفرد ليس بعيداً عن الوقوع في الخطأ، خاصةً إذا كانت تلك البيئة تشجع على الانحراف، أضف إلى ذلك أن الفراغ الذي يعيشه الفرد في حياته، تشكل لديه رغبةً في المضي في طريق الإجرام، وذلك من أجل تلبية احتياجاته المادية التي لا يستطيع الحصول عليها من خلال العمل الذي يفتقده، علاوةً على ذلك هناك بيئة العمل التي تلعب دوراً في أن يكون الفرد متأثراً بها سلباً أو إيجاباً، ويعود ذلك إلى طبيعة العمل الذي يمارسه الإنسان، وطبيعة الزملاء الذين يشاركهم ساعات طويلة من اليوم[14].

الخاتمة:

إن العوامل الاجتماعية والبيئة المحيطة بالأفراد تشكل علاقة وطيدة كمسبب رئيسي لارتكاب الجرائم وإتباع السلوكيات المنحرفة، حيث تتعاون الظروف المحيطة بالأفراد وتكسبه تميزاً عن غيره، وتتشكل رابطة وثيقة بينه وبينهم، وتندمج حياته مع حياتهم لفترة من الزمن، وهذه الفئة هم أفراد أسرته ومجتمعه ومدرسته والأصدقاء والرفقاء ممن يختارهم هو نفسه، ومن خلال التجارب التي أجريت فقد تم إثبات أن الفرد يتأثر بسلوكيات من حوله من محيطه الاجتماعي وبشكل خاص المقربين منه، وتظافر تلك العوامل مجتمعة مع بعض، سواء أفراد أو مؤسسات هو ما يشكل البناء الاجتماعي للجريمة والسلوك المنحرف.

المصادر:

[1]. فايز الجميلي (2001م)، الجريمة والمجتمع ومرتكب الجريمة، المكتبة الوطنية، عمّان، الأردن، ص22.

[2]. فايز الجميلي، مرجع سابق، ص25.

[3]. عبد الله الوريكات (2013م)، نظريات علم الجريمة، دار وائل للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، ص41

[4]. حمد سليمان المشوخي (2002م)، تقنيات ومناهج البحث العلمي، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، القاهرة، مصر، ص186.

[5]. صافي عبد المنعم (2009م)، الضبط الاجتماعي، مركز العراق للدراسات والبحوث الإستراتيجية، بغداد، العراق، ص31.

[6]. سونيا هاربر (1988م)، شخصية الفرد والخبرة الاجتماعية، ترجمة: قيس النوري، دار الشؤون الثقافية، العراق، بغداد، ص145.

[7]. صافي عبد المنعم، مرجع سابق، ص46.

[8]. نائل العبد الله (2011م)، العوامل الاجتماعية المؤثرة في ارتكاب الجريمة، رسالة ماجستير، جامعة الأنبار، العراق، ص201.

[9]. أمين جابر الشديفات، منصور عبد الرحمن الرشيدي (2016م)، العوامل الاجتماعية المؤثرة في ارتكاب الجريمة في المجتمع الأردني من وجهة نظر المحكومين في مراكز الإصلاح والتأهيل، مجلة دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 43، ملحق رقم 5.

[10]. أمين جابر الشديفات، منصور عبد الرحمن الرشيدي، مرجع سابق، ص2127.

[11].  أحمد خاطر (1984م)، الخدمة الاجتماعية، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، مصر، ص88.

[12]. أمين جابر الشديفات، منصور عبد الرحمن الرشيدي، مرجع سابق، ص2128.

[13]. جلال ثروت (1979م)، الظاهرة الإجرامية، دراسة في علم الإجرام، مؤسسة العقاب، الإسكندرية، مصر، ص 122.

[14]. أمين جابر الشديفات، منصور عبد الرحمن الرشيدي (2016م)، مرجع سابق، ص2135.

 

التعليقات مغلقة.