يحدث في البِلاد الرَّجيمة

12

صحوتُ صباح اليوم وأنا بعجبٍ من قرارٍ اتخذتهُ بالأمس!

أمس، بعد الانتهاء من عملي وجولة المشي المعتادة، ذهبت لإحدى المكتبات الكبيرة لحاجتي لكتابٍ لأحد زبائن “ركن الكتب” حيث أعمل.

ألقيت التحيّة بعد الدخول على صاحبها الودود. وجدته مشغولًا بعملٍ يقوم به، تركته يُتمّ عمله وأنا رحت أتجوّل بين الرفوف عن حاجتي وأطالع ما هو جديد.

حينما أُطالع الكتب؛ يشفّني الفرح وتستعر أماني التملّك. أخذت الكتاب الذي أتيت لأجله، واقتنيت لي رواية ل”بيتر هاندكه، ترجمة: بسام حجار”.

دفعت ثمن الكتابين وجلست، وبجلوسي فرّت حواسي بعيدًا عن وجودي الماديّ لمدة أجهلها.

أعادني لواقع اللحظة صوت صاحب المكتبة.

أنس، “شو رأيك تشتغل عندي بعد دوامك كل يوم كم ساعة؟”

صاحب المكتبة، حاليًّا، يقيم معرض صغير للكتاب أمام مكتبته مدته ثلاثة أشهر.

أجبت بالقبولِ بسرعةٍ ودونَ تمحيصٍ للعرض.

قال لي: “كم بدك أجرة؟”

قلت له: اللي بدكياه مهما كان.

ربما ما سيمنحني إياه لن يغيّر من واقعي، وأظنه لن يتجاوز عن كفاية احتياجنا اليوميّ لأرغفة الخبز و اللبن!

منذُ فتحت عيناي هذا الصباح وأنا أقلِّب هذا العرض في رأسي المتصدع.

أعمل ما بين ثلاثة عشر وأربعة عشر ساعة يوميًا، عدا عن ذهابي وعودتي مشيًا مسافةٍ تُقدّر بأربعة كيلو متر ذهابا وإيابًا ذاتها.

كيف قبلتُ؟!

هناك أسباب متوالدة دفعتني للقبول دون تقليبٍ للعرض، وأهمها وأولها:

المؤجر والدائنين، الذين ما أن أرى رسالة أو مكالمة منهم؛ حتى أشعر بقلبي الصغير ينكمشُ على نفسهِ ويهرب ليختبئ خلفَ جِلد ظهري.

أيضًا، من هم وجودهم على حافة العيش مرهونٌ بعملي وهم كُثر!

أنا الذي أستنفذ كلّ الاعذار وماء وجهه غزاه التصّحر، والذي تحرثُ قلبه طلباتٌ صغيرة بعيون الغير، كبيرةٌ وأقرب للأمانيّ بنظر ذاته.

أناطح الصيرورة العمياء لهذا الوجود كلّ يوم، وأُقحم بقاياي بالمحاولات التي تؤول للفشلِ دومًا، قابضًا على النَفَسِ الأخير للأمل.

أنكصُ لذاكرة فجيعة السوءات، أحفر أرضها علّي أجد بها ما يدفعُ بي للاستمرار حتى النفاد.

تهبني قول ابن قتيبة الدينوري:

“ليس من صفة يُمدح بها الغنيّ إِلا ذُمّ بها الفقير، فإن كان شجاعًا قيل أهوج، وإن كان وقورًا قيل بليد، وإن كان لَسِنًا قيل مهذار”.

وقول شاعر قديم:

“يُزرِي بعقل المرء قلّة مالِهِ

يُحمّقُهُ الأقوامُ وهو لبيبُ”.

أقبضُ على الكلمات، أرشق بها تلافيفَ عقلي.

رحتُ أُفعّل ال”GPS” في دماغي لاكتشاف أقصر الطُّرق من نقطة عملي الأولى إلى نقطة عملي الجديد، أجدها كلّها تحملُ ذات المدة الزمنيّة.

غير اليوم كنتُ أعود مشيًا دون ارتباطٍ يدفعني للسرعة، بينما الآن الحال تغيّر. أحتاجُ الوقت!

كذلك، لا يُمكنني العودة بركوب تكسي أجرة، إذ أنّه سيذهب ربع أجر يومي.

ولا حتى عدواً، إذ أنّ هيئتي لا تشي على أنّني ممّن يمارسون الرياضة حتى أتذرع بها، وما أظنُ جسدي الهزيل والعليل قادرًا على إسعافي بهذا لمدة لا تَتَجاوز أيام.

هذا الجسد، وُسِمَ بكلِّ الانتهاكات غير الإنسانيّة، ومنها ما هو خادش إن تم التصريحُ به!

وحدي أُدرك حقيقة هذه الانتهاكات الموسوم بها جسدي؛ لأنّه لتاريخ اللحظة أعايش تبعاتها.

أتمنى ألا يخونني هذا الجسد -الزريبة- قبل أن أؤدي واجباتي!

كما أتمنى، وأمنية يعصِرها قلب قلبي، ألا يدري والدي الذي سجنه المرض منذ سنوات عن كلِّ هذا!

ما بيني وبين والدي لا تنصفه إلا الأبجديّة غير المغتصبة؛ أبجديّة الشعور.

إنّ ما أمرُ به وأعايش من حوادث تفترعها الأحايين؛ يمنحني المعنى الحقيقيّ المُطلق والجوهريّ للوحدة. بعيدًا عن تفاسير الفلاسفة الذين كانوا يتخمون بطون الكُتب بآرائهم ونظرياتهم وهم في بحبوحة ورغد عيشٍ دون الانغماسِ في جذور واقعٍ مذلٍ ومهين.

قبلت وكفى.

الآن، سأترك كلّ شيء كما هو، وليأتي ما يأتي ويذهب ما يذهب.

أتركُ كلّ شيءٍ قيد التعليق، وأذهب لقراءة “قصيدة الشاعر الراحل سعدي يوسف: تحت جدارية فائق حسن”.

التعليقات مغلقة.