فلسفة المرض

40

«ولما بَرِئ من مرضه، كَتبت إليه تسألهُ فلسفته في المعاني التي يَنشأ المرض لإيجادها في النفس، فكتب هذه الرسالة وتجافى عن ذكر الحب فيها، إذ كان الشأن حينئذٍ شأن الحياة، وقد كتبها وهو في أعقاب العِلة، ولولا أنَّها هي من طلبت منه هذه الرسالة، وأنها أعجبت بها، وعدتها من آثارها فيه، لما نشرناها هنا»¹.

جاء الإنسان إلى الأرض وجاءت معه الصحة والمرض، فكأنما تطوف الأمراض في هذا العالم لتصلح نواحي الإنسانية فيه، فتضعف وتكسر شره الهوى، وتكف طغيان المال عن النفس حتى لا شهوة فيه ولا قوة له، إذ أن من هذه الأمراض تعيد لنا الانسانية.

قديماً وحيث الحضارة السومرية تقوم الفلسفة الدينية للطب على مسألة غاية في الأهمية، إذ أصبحت أساساً للطب في بلاد الرافدين قديماً، وهي أن سبب نشوء الأمراض إنما ينزل على الإنسان بسبب غضب الآلهة, بسبب خطأ ارتكبه فتأمر الآلهة بإحلال المرض، إذ يُعد أحد أنواع لعناتها،  فتقوم كائنات العالم السفلي للقيام بهذا الأمر , وفيه ترميز الى أن المرض هو مرسل من العالم السفلي لإحلال الموت نهائياً.

في الأساطير السومرية القديمة يعد الإله “أنكي” ويسمى (أيا) رب الطب الأعلى وهو يميل إلى الشفاء والصحة إذ يُعد إله الماء، وهو مادة الطب، أما الإله (انو) والاله (أنليل) هما المسؤولان في الغالب بإنزال أمر المرض، ويستعينان في ذلك بآلهة النار ( كيرا و نسكو) وآلهة العالم السفلي (نمتار) و(أيرا) , لكن الغريب في الأمر أن الذي يقوم عليه الشفاء من الأمراض مشابه للذي يقوم علية السحر حيث يقوم الكاهن بالتوسط بين المريض والألهة و يتوسلها ليتم الشفاء، هكذا تأمر الآلهة الشياطين بكف الأذى عن المريض , ويقوم (اسو) بإعطائه الأعشاب اللازمة ² .

هناك تعريف سلبي للمرض يطرحه عليه كل من الفيلسوفًين: الأميركي هوغو تريسترام إنغلهارت، والألماني هانز جورج غادامير، حيث يعرّف الفيلسوفان الصحّة باعتبارها رديفاً لاستقلالية الفرد، ما يجعل المرض في المقابل غياباً لهذه الاستقلالية، كذلك يرى الفيلسوف الألماني نيتشه المرض من زاويته فيقول: المرض يجعلك عالما بأخفي خفايا النفس الإنسانية، وبأدق ما تحتويه من انفعالات ورغبات، وما يسيرها من دوافع وغرائز، ويضيف أن المرض وحده يشعر الإنسان بالصحة، ويجبره على دراسة الحياة وفهم طبيعتها، لأنه يستثيره إلى المقارنة بين هاتين الحالتين المتضادتين، أما إذا استمرت حاله في صحة دائمة، فإنه لن ينتبه لمعنى الحياة، فالألم الشديد هو وحده الذي يخلص الروح ويحررها، وإنه الذي يرغمنا على النزول إلى أعمق أغوار نفوسنا، فإنه وإن كان ليس من شأن الألم تحسين أحوال الناس، ولكنه حتما يجعلهم أشد عمقاً.

يعتمد الموقف الأرسطي _نسبة لأرسطو_ في تفسير المرض على اعتبار ما إذا كان الكائن البيولوجي عيّنةً جيدةً أو عينة سيئةً من نوعها، فالعيّنة الجيدة هي العيّنة الصحّيّة بينما العينة السيئة هي المريضة. يمتلك الكائن الحي الجيد جميع المؤهّلات البيولوجية التي يحتاجها للعيش بنجاحٍ في الطرق التي تميّز نوعه.

اهتمّ الفيلسوف كريس ميجون بحقيقة أن هناك بعض الحالات السيئة التي لا تعتبر أمراضاً، على سبيل المثال اختيار عدم النهوض من الفراش طوال اليوم ليس مرضًا لأنه طوعيٌّ، بينما إذا كان لا إراديًا فيصنف مرضا. أما توماس مان   وهو روائي وفيلسوف ألماني كبير يقول: ونحن نريد أن نفهم نوعية ذلك المرض ، هل هو روحي أم بدني؟

السؤال المحير المهم هنا، لماذا خلق الله المرض؟  يعد هذا السؤال خطير في الفكر الانساني وثقافة الشعوب، فالبعض ألحد ورفض وجود الله الرحيم مع وجود المرض والشر والمعاناة. إن عدم الاجابة على هذا السؤال استحث المشككين مثل بروفيسور كامبردج الشهير وعالم الكونيات والثقوب السوداء ستيفن هوكنغ وفلاسفة الالحاد الأربعة سام هاريس , ريتشارد داوكن , كريستوفر هيتشنز , و دانيل دينيت,  لإعلان انه لا يوجد اله ³.

حكمة المرض: تصنف الى حكمتين

الأولى حكمة طبية والثانية حكمة شرعية، فأما الحكمة الطبية فهي لنرضي بها المشككين بالله، ولإثبات الحكمة بالدليل المادي , فمنها تقدم الطب والجراحة والتحاليل الطبية المختبرية والصيدلانية، إذ بفضلها أصبحت العديد من الأمراض مثل التدرن الرئوي والكوليرا وغيرها امراض من الماضي بسبب اكتشاف اللقاحات، كذلك ليتبين ضعف الإنسان حيث أن أبسط الكائنات تجعله منهكاً ضعيفاً، ولمعرفة أماكن الوباء لأجل العزل الطبي، وكذلك تعلم الوقاية والعلاج  اتباع الحمية، وأهمها هو السيطرة على الأمراض الجينية والعائلية عند ظهور الحالات نتيجة لزواج الاقارب .

اما حكمته شرعا: لمعرفة فضل الله علينا بالصحة والعافية، المرض مظهر من مظاهر الضعف البشري، وهو ابتلاء من الله عز وجل يصيب الصالح والفاسد، والطائع والعاصي، فـفيه تكفر السيئات وتزداد الحسنات وترفع الدرجات، كما جاء في الحديث (ما يصيب المسلم من وجع ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكُها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه)

سبحانك اللهم! إنما هذه الأمراض في الدنيا بعض مواد البحث الفلسفي العميق لدرس أساليب الطبيعة البشرية، فكم من عملية جراحية في طب الناس هي الحقيقة عملية حسابية في وزن هذه الطبيعة وتقديرها، وكم من أنَّةِ وجع في المرض وهي نفسها كلمة عتاب بين الطبيعة والنفس، وكم من كبوةٍ للداء هي في الواقع نهضة للأخلاق من انحدارها.

[box type=”shadow” align=”alignright” class=”” width=”100%”]1.مصطفى صادق الرافعي ، أوراق الورد، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ٢٠١٢.[/box]
[box type=”shadow” align=”alignright” class=”” width=”100%”]2.خزعل الماجدي ، بخور الآلهة ،الأهلية للنشر والتوزيع ،المملكة الاردنية الهاشمية ،1998.[/box]
[box type=”shadow” align=”alignright” class=”” width=”100%”]3.• https://www.google.com/url?sa=t&source=web&rct=j&url=https://ar.m.wikipedia.org/wiki/%25D8%25A3%25D8%25B3%25D9%2582%25D9%2584%25D9%258A%25D8%25A8%25D9%258A%25D9%2588%25D8%25B3&ved=2ahUKEwjQ-46akZz5AhUB_qQKHQHgA7MQFnoECAgQBQ&usg=AOvVaw14zPO1kCDGyO_GXuPuDB9N [/box]

التعليقات مغلقة.