أُفول الأعذار وتأبيد الأحكام

3

في هذه الرقعة الموجودة على أديم البسيطة التي نقطنها ونجوسها، نجد أحكام الإقصاء بأبعادها وأطوارها بمتناول اليّد. وكأن الأحكام تزيد من تفشي التعصب، الفوقيّة، الطمع والبغض وكلّ ما هو قميءٌ على الفضائل.
من ضمن جملة هذه الأحكام الجائرة: إلصاقُ الجهل والدونيّة بعدم حامل الشهادة التعليميّة.
غير أن الأحكام الانتهاكية تتمادى بتطاولها لتصل لوالديَّ المحرومين من التعليم، حيث يمنعهم من الاعتدال في المجالس، والاحتماء بالصمت حينما تدور رحى الحديث عن التعليم وإنجازات الأبناء؛ وهذا يترك داخل أرواحهم ندبة.
في هذه المجتمعات التي تجيد بدقة هدم جسور التواصل وخلق هوة بين الإنسان وأخيه، حيث يَسهل كسر القشرة الحضاريّة التي يتقوقع داخلها المجتمع الموبوء بمجرد الجس، كان لزامًا على المحروم من الشهادة أن يظلّ بمنأى عن الكثير من مشاهد الحياة.
يتساءل أحد المحرومين: يا ترى، لما لا يسعى أصحاب الرأي العام بالوكالة غير الشرعيّة لاجترار عذرٍ من سبعين؟
هناك من حرمه من استيفاء التعليم الفقر المدقع، السجن في ظلِّ تسيد حكومات دكتاتوريّة لبلاده، جناية الوالدين بالجهل المطلق، مدرسين جاهلين بقداسة مهنتهم خلّفوا كرهًا أصيلًا داخل الطالب للمؤسسة التعليميّة، الأقدار التي تصنع المصادفات الغرائبيّة.
ثمّة رؤيا قاصرة تحيل الشهادة -الورقة- لاعتراف وجود إنساني. تنظر لمن لا يمتلكها وكأنه رقمٌ زائد، صفر.
لكن، هناك صفرٌ بداخله روح شجاعة وثابة يقول:
نعم، أنا صفر، لكن ليس بوسعكم الاستغناء عني في العمليات الحسابيّة!
لا يحتاج الأمر لبذل جهد لإزاحة الستارة حتى تَتَكشف الرؤيا، ولا لنظرةٍ مجهريّة ماحصة لنرى مجالات الحياة كيف تعمل في كلِّ حقولها غير التعليميّة، فقط نحتاج غسل القلب لنبصر.
الآن وهنا، نستذكر بعض الأسماء التي حفرت بذاكرة الوجود أسمائها من خلال الأثر ولم يتمّوا تعليمهم:
أديسون صاحب الألف اختراع، أينشتاين الحائز على نوبل في الفيزياء والذي لازالت نظرياته تُدَرّس لتاريخ اليوم، طاغور الشاعر الفيلسوف، شكسبير أمبراطور الأدب الإنجليزي وصاحب المسرحيات العبقريّة، برنارد شو الأديب الساخر، بيتهوفن الأصم الذي حلّق بأرواح الأنام من خلال موسيقاه، غابرييل ماركيز أحد أهم رواد الواقعيّة السحريّة ومبدع مئة عام من العزلة، كنوت هامسون صانع بديعة الجوع، ليو تولستوي الحكيم وأبو الأدب الروسي، أجاثا كريستي بأدبها البوليسي الزاخر، إرنست همنغواي مبدع الشيخ والبحر وصاحب نوبل فيها، العقاد الذي جاوزت مؤلفاته المئة في أكثر من حقل معرفي، الرافعي الذي قيل عنه إنه معجزة في الأدب، الشاعر الكبير إيليا أبو ماضي، حنا مينة ورواياته التي جعلتنا نبتلُ بماء البحر ونستشعرُ ملوحته دون الوقوف على شواطئه، جمال الغيطاني الذي ترأس تحرير صحيفة الأدب المصرية.
أيضًا، هنالك أسماء غير المذكورة والبحث في سيرهم والكتابة عنهم يحتاج وقت ومساحة أكبر.
هذه الأسماء برهنت على أن الدراسة لا تحول بينها وبين الإبداع الخلّاق. هؤلاء الخالدون بأرثهم سحقوا نرجسية الغالبية أصحاب ضيق أفق الاعتقاد بأن الإنجاز يكون من خلال إطار التعليم فقط. عاندوا الظروف القاسية وصنعوا التغيير من تجارب حياتهم المرّة، ووصلوا لأهدافهم الإنسانيّة النبيلة.
نحتاج بين حينٍ وحين، ارتدادًا للذات بأدوات النقد والتشريح لأغلب المفاهيم.

التعليقات مغلقة.