حقيبة موت…. من صوفيا إلى فيينا

44

كانت كل الحياة تشبه اللون الوردي، لم تكن الأمور متكلفة، كل شيء كان يمرُّ بسلاسة تشبه خيالات الحالمين في القرى البعيدة التي تفوح منها رائحة الحصيد في الليالي المقمرة في شهر يونيو، فالكل جنى محصوله وفرح فيه وتفرَّغ للسهرات وأحاديثها، يا ترى كيف لم نكن نشعر بجمال تلك الأيام التي مرت ساعاتها مرور الكرام؟ هل تَحَوُّل سواد شعرنا إلى البياض هو الذي يُؤلب تلك الذكريات التي تؤلمنا كضرسٍ أصابه العفن؟!

كم أحن لأيام القرية التي كنت أكرهها، يا لغبائي كم كنت ساذج، لقد كنت أنفر منها لأنها صامتة وهادئة، فلم تكن تحتوي على المطاعم الفخمة والوجبات السريعة وأماكن بيع الملابس،ولم يوجد فيها ضوضاء المدينة وأضواءها المُبهرة.

كنت أستمع بملل لثرثرات الجارات اللواتي يزرن أمي وجُل كلامهن عن سوء موسم الأرض لهذا العام، تلك الثرثرات التي أدفع الآن من عمري سنين طويلة كي تعود.

لا أدري لماذا الآن أتذكر كل كذباتي التي كنت أسردها لأهلي لأبرر لهم عدم قدومي للقرية في عطلة نهاية الأسبوع، كنت أُشعرهم أنني منهمك في الدراسة، وأسحب منهم المزيد من المال، بينما أنا في الحقيقة كنت أمارس الصياعة حرفياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تلك الكذبات كانت تشبه كذبات طلاب كُليَّتي الذين كانوا يحملون المريول ” رداء أبيض” بأيديهم عندما يذهبون لمقهى كلية الهندسة، ليمارسوا خداع البصر ويُظهرون أنفسهم على أنهم طلاب بكلية الطب في محاولة فاشلة منهم لجذب انتباه الفتيات، يا إلهي كم كنَّا سُذَّج!

يعاودني شريط هذه الأحداث في كل مطب يتماثل أمامي في حياة اللجوء المقيتة، فأبدأ بمعالجة الأمور غير المنطقية منطقياً، فأبحث عن فرضية فيزيائية بائسة تعيد الزمن إلى الوراء، أمل يشبه أمل العقيمين لغوياً في العصر الجاهلي، فقد كانوا يأملون أن يأخذهم الجن لوادي ” عبقر” فيصيبهم انطلاق اللسان ويبدعون في نظم القصائد.

كانت حدود صربيا هي الهدف الذي تطير إليه عيون وقلوب المُنهكين المتعبين من العمل لمدة اثنتي عشرة ساعة يومياً، من كان يظن أن بلغراد وفيينا وهما قَلبي الإمبراطورية الرومانية المقدسة سيكونان يوماً أمنية وملاذ لمئات الآلاف من المسلمين؟! بل سيدفع المسلمون للوصول إليها الآلاف من الدنانير، تلك الدنانير التي تحولت فيها صورة القيصر لصورة ” بنجامين فرانكلين”، وحتى المسلمون تغيرت قوانينهم، فاستبدلوا قانون: المسلم أخو المسلم بقانون آخر وهو: المسلم عدو المسلم، وغير مسموح له الدخول إلى بلادنا إلا بألف تذكرة وورقة! تباً كم تمنيت لو كُنت أوكرانياً.

كانت العيون التي تَرقب بلغراد تُغمض مرة وتتسمر مرات بلا حِراك وهي تناظُر ” صوفيا”، فعندما بناها التراقيون منذ آلاف السنين كأنهم هندسوها بشكل يجعلها تحنو على السوري الذي يعبرها، وذلك بالرغم من أن جنود الامبراطور ” مايكل الثاني” كانوا أشداء على الأجساد النحيلة التي أضناها السير في غابات البلغار المتسعة كقبر جماعي للباحثين عن الموت.

بعد المشي لمدة ثمانية أيام بين الجبال والوديان في غابات بلغاريا، تذوقنا خلالها كل أنواع الرُعب والجوع والعطش، وصلنا أخيراً لما يسميه المهربون ” نقطة التحميل” حيث كانت تنتظرنا سيارات فارهة ومغلقة لتوصلنا إلى صوفيا، كان السائقون منعدمي الإنسانية، فقد شاهدتهم بأم عيني يضربون رجلاً طاعناً في السن لأنه اشتكى من اكتظاظ الناس في السيارات، لم يشفع له عندهم كبر سنّه ولا جسده المنهك من المشي المطول، أما نحن فكنا جُبناء منزوعي النخوة ولم نحرك ساكناً على هذا العمل، ومن ناحيتي فنصفٌ مني كان يقول لي: اعترض واشتم أُمهاتهم بل واضربهم أيضاً، لكن النصف الآخر مني والذي تربَّى في جيش الأسد _خلال خدمتي الإلزامية_ كان يقول لي: نفِّذ ولا تعترض! على كلاً تصيبني حالة انتشاء كلما أتذكر أنني انتقمت من عقيدة ذلك الجيش المهترئ بانشقاقي عنه في أوائل العام 2012م، وثبَّتُ خازوقاً في أسفل عقيدته، مع أنني لا أنكر أنني انشققت نصفين منذ ذلك اليوم، بسبب صعوبة الحصول على كل ورقة رسمية تطلبها مني دول اللجوء المؤمنة، لست نادماً على انشقاقي عنه، ولو أُعيد الزمان ألف مرة، لانشققت عنه ألفي مرة.

 

كان الجو حاراً جداً على الحدود البلغارية الصربية، ففي شهر يوليو من هذا العام 2022م، كانت الطبيعة الأم البهيمة تعرف أنني سوف أهاجر ” تهريباً” إلى أوروبا، فأمرت غاباتها بالاشتعال وزادت تلظِّي شمسها، كدت أختنق وأنا أنتظر مرشد الطريق ” الريبري” لكي نجتاز حدود بلغاريا وندخل صربيا، لقد تم هذا الأمر بعد ثلاثة أيام من المحاولات الفاشلة، فقد دخلنا بلاد الصرب بعد أن جاءنا خبر موثوق بأن الطريق آمن، وبعد أن توغلنا عدة كيلو مترات داخل صربيا، تم تجميعنا كالأغنام في نقطة ما لكي تُحمِّلنا السيارات إلى بلغراد، كنا نتجاوز المئة شخص وبعد قليل جاءت ثلاث سيارات “فان”، تكلموا مع بعضهم ثم تكلموا بهواتفهم ومضوا دون أن نعرف ماذا يحدث، ثم مضت ساعة من الانتظار ولاحَ شيءٌ في الأفق، لقد كانت سيارة شحن مغلقة “براد”، وبدأت أصرخ في داخلي: لا يا الله، ليست هي ليست هي، ولكنها فعلاً كانت هي! نعم هي وسيلة النقل التي ستوصلنا لبلغراد. مرّت ثلاث دقائق وكأنها ثلاثًون عاماً، يا إلهي كيف سأصعد فيها وأنا مُصابٌ ب ” رهاب الاحتجاز”، فبمجرد انغلاق باب لا أستطيع فتحه تصيبني حالة هلع مجنونة، وعند بدء صعود الناس إلى الشاحنة كنت أراقب المنظر من بعيد، لقد بَدونا كخراف تُساق للذبح، وأنا أفكر هل أصعد أم لا؟ هل أبقى ويمسك بي حرس الحدود الصربي ويذهب كل ما بذلته من جهد ومال أدراج الرياح أم أصعد؟ صعدت الشاحنة وكلَّي يرتعد، وبمجرد إغلاق الباب انتابتني نوبة الهلع فأخرجت من جيبي بخاخ الفنتولين الذي يساعدني على تسكين نوبة الربو الطارئة نتيجة الهلع، وأخرجت من جيبي الآخر هاتفي الذي تعلوه صورة ابنتي، ثم وضعت رأسي بين قدمي وبدأت بنوبة بكاء هستيرية صامتة، بكاءٌ يعلوه صوت نشيج جعل كل من حولي صامتاً، كنت أبكي قهراً وامتعاضاً من الواقع الذي سحقني بقدمية وألقاني عند ولادتي في سوريا الوحش، لقد ساعدتني موجة البكاء وصورة ابنتي على تجاوز نوبة الهلع التي سببتها فوبيا الاحتجاز، وعند وصولنا وانفتاح الباب، كنت أشمُّ رائحة الأمل الممزوجة بالعرق تفوح من أجساد الناس، يا إلهي وأنا الآن في رحاب فيينا واتساعها ما زال يصيبني ضيقٌ في روحي كلما هزَّ ذلك الموقف جُدران ذاكرتي.

بقينا في السكن المخصص للاجئين ” الكامب” في بلغراد قرابة أسبوع، لا أدري ماذا أفعل بالخمسين يورو المتبقية معي والتي خبأتها في مكان سري في ثيابي الداخلية السفلية، حيث قامت زوجتي بخياطة هذا المكان لأضع فيه أموالي كي أتجنب سرقتها من حرس الحدود أو المرتزقة الموجودين على الطريق. ما أثار دهشتي في ذلك السكن المكتظ هو قدوم بعض العائلات الصربية إليه وتوزيع الطعام ومستلزمات النوم على اللاجئين، وهنا ضحكت على نفسي كثيراً بعد أن تذكرت أنني كنت أتمنى فناء الصرب جميعاً أيام حرب البلقان، وقام عقلي بطرح العديد من الأسئلة: لو كان الصرب مسلمين كيف سيكون الوضع؟ جاوبت على السؤال من واقع مكان معيشتي السابق قبل أن أسلك طريق الموت هذا، سأتحَّفظ على الجواب.

بعد أسبوع من أسابيع بلغراد اللاهبة، قمت بتشييك أموالي بمكتب بمكان إقامتي السابق، وتعاملت مع مهرب يلقبه قُدامى المهاجرين ب” الشفرة” وذلك لأنه يعبر بك الحدود كنسمة مُسرعة دون أن يلحظك حرس الحدود الصرب أو الهنغار، وبالفعل بعد يومين وبدون عناء كبير_ نسبياً_ اجتزنا بلاد الهنغار “المجر” ووصلنا النمسا، وأخبرنا المُهرَّب أنه فور نزولنا في البلدة، علينا الذهاب إلى محطة القطار وشراء تذكرة إلى فيينا، كنا ثلاثة أنفار نمشي في ذلك الشارع الأنيق في تلك البلدة النمساوية الحدودية ويظهر علينا تعب الطريق بسبب ثيابنا وحقائبنا المتسخة، لم تمضي إلا دقائق حتى توقفت عندنا دورية شرطة، تسمَّرنا في مكاننا وأصابنا الرعب، نزل منها شرطيان وبدأ أحدهم يتكلم ونظره باتجاهي، لم أفهم ولا كلمة وأصابني البكم بسبب الخوف، ولم يهدأ خوفي لغة جسده التي كانت تقول: اهدأ أنتم في أمان، كان يطلب منِّا الركوب في السيارة، فتقدمت كأول شخص لكوني أكبر من الشباب الذين معي بعقد من الزمن، لملمت نفسي وتقدمت للشرطي الآخر وقدمت يداي له ظناً مني أنه سيضع فيهم ” الكلبشات”، لقد أمسك بيدي وفتح باب السيارة وكان يبتسم ويقول: OK….OK، كررها عدة مرات معي ومع الأصدقاء الباقين ليُشعرنا بالأمان، انتابتني رغبة بالبكاء، لكنني تمالكت نفسي، فمنذ زمن بعيد لم أُعامل على أنني إنسان.

تم أخذنا إلى مركز شرطة صغير، وجرت مقابلة سريعة معنا أخذوا فيها بياناتنا، وكان المترجم عراقياً، فقد عرفته من لهجته، ولربما منذ زمن بعيد كان قد ركب طريق الموت الذي سرتُ فيه. فيما بعد تم أخذنا لمركز شرطة أكبر، أعادوا المقابلة وقاموا بأخذ بصماتنا وأعطونا بطاقة تشبه الهوية لكي نتنقل بها، وأعطونا تذاكر قطار وقالوا لنا: اذهبوا إلى مدينة ترايسكيخن ” Traiskirchen”، كان لسانهم رومياً وفِعلهم نبوياً محمدياً فلسان حالهم يقول: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

اليوم أجلس في كامب ترايسكيخن، أدخن سجائر مالبورو وأشرب قهوة سيئة المذاق، أتذكر هذه التفاصيل وكأنه مر عليها دهر وليس شهر، تُؤرقني صورة ابنتي وأنا أتأملها قبل النوم، أحياناً أبكي لأني لم أعتد فراقها يوماً كاملاً منذ أن وُلدت قبل خمس سنوات، ولكن يعزيني أن لم شملنا قادم، ويواسيني أنها ستعيش ببلاد لا عسكر قتلة فيها ولا حواجز ولا أذونات سفر، أما أنا فأقول في داخلي أنَّ سنوات عمري التي مضت أكثر من المتبقية، وسأموت يوماً ما وأنا مطمئن أنها ستعيش في رحاب عدل الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ستعيش وهي آمنة على حياتها ودينها وعِرضها، نعم ستعيش حياةً تُرويها سعادة، أما والدها فسيبقى الوطن ندبة تعلو قلبه.

2 تعليقات
  1. وتر يقول

    اللهم أصلح أحوال المسلمين..
    لا كلمات تفي .. ولا يد تملك التربيت .. لكن لسان يحسن الدعاء .. وقلب يحب الله والإسلام والمسلمين.. ويأمل أن ينتهي كل هذا .. ويغسل وسخ الدروب وتطهر الأوطان والقلوب ..
    أعانكم الله وربط على قلوبكم

  2. W.J يقول

    لا شيء يقال فكمية الوجع هنا اكبر من ان تحتمل .

التعليقات مغلقة.