انتعالُ العُبور

45

في هذا الوقت، وأنا في الرُكنِ الخلفيّ للمكتبة -المستودع الصغير- حيثُ أقطُن، تَركُلُ عَقليَ المُشوهَ أفكارٌ سوداوية. لا… رُبما هي أكثرها حقيقةً!

لا أستطيعُ تهذيبُها، وكأنها شَظَايا زجاجٍ تَدُور وتَدُور، وتَشْرخُ تلافيفه وكلّ ما فيه!

ثمانيةٌ وعشرون حَرفاً تَقِفُ عَاجزةً إزاءَ وصفِ هذا الألمِ الدمِيم الذي يُشْبِه هذهِ الأفكارَ الجحيميةَ.

أكتبُ، كيف؟

لستُ أمتلكُ قدرةً على كتابةِ هذا العبثِ الذي أنا فيه!

ليس ثمَّةَ مِنْ طَريقةٍ مُلائمةٍ للكتابةِ لديَّ!

يا إلهي! خواءٌ فَظيعٌ هذا الذي أنا فيه.

رغبةٌ حَرون تنتفضُ بِهلعٍ داخلي، ألجِمُها فَما تأبى، بل تزدادُ تمردًا.

رغبةُ الهروبِ، نَعم… أودُ أنْ أهربَ. تعبتُ مِنَ الزحفِ والحبو.

أودُ أن أهربَ مِنْ عَالمِ التفاهةِ والخرابِ الروحي، أودُ أن أهربَ مِن الذين خذلتهم ولازلت، مِمّن مِن المفترضِ أن أكونَ لَهُم مَصْدَرَ عَيشٍ ورِزق؛ لاستمرارِ وجودَهُم على حَافةِ الحياة.

 

هلْ سَتغفرُ ليَّ يا أبي إذا لم أَعُد يوماً لأحمِلك وأَضعكَ على كُرسيّكَ وأجرَّك لترى شيئاً من عجلةِ الحياةِ في الخارجِ كالمعتاد؟ إذا لَم أوفر لك أدويتك؟ وتسديد أجارِ المنزل؟ وأنتِ يا أمي هل ستغفرينَ لي لأنني لم أستَطع الحصولَ على شهادةٍ أكاديمية لتُزيّني بها صدرَ الغرفة، وتُرضي بها المُجّتَمَعَ القَمِيء الذي يُقَيّمُنا حَسْبَ التحصيل العلمي؟

لكنكِ تَعلمِينَ جيداً يا أُمي أن ما منعني عن استيفاءِ التعليم إلا السجن والحرب!

وأنتُم أيُّها الصغار هل ستغفرون خذلاني لكم بالوعودِ التي قطعتها لشراءِ الملابس والألعاب؟

أوتدرون أنه في كل طلب من طلباتكم البسيطة بعيون الغير كنت أموت، وأموتُ مراتٍ حينما أرى جواربكم الممزقة وثيابكم المشروخة بعد الرتْقِ المتوالي!

هل سَتغفرونَ يأسيَّ واستسلامي؟

الحربُ لَمْ تكُن في بلدي فقط! بل داخلي حروبٌ أشدُ ضروساً

 

ما ذنبيّ إن تورطت بوجودي على ظَهرِ هذه الوسيعة المقيتة؟

رأسي يؤلمني، عقلي ينزفُ، الأفكار داخلَه مطارق.

لم يعُد لي من عزاءٍ حتى الكتب ليست بعزاء!

حاولت قدر الإمكانِ أن أُقاومَ وأحتميّ من كل هذا العبث الجحيمي، لكنني لم أعد أستطع. ودِدتُ لو أتمكن من حفرِ الأرض بأصابعي الهزيلة وأظافري، وأسناني المنخورة كي أحتمي، لكن ما من مناص!

هناك ألمٌ أنّى لخيالكم العقيم أن يسعِفْكُم بتخيله!

ألمٌ جحيميٌ لا يهدأ، لا يموت، يتغذى بنفسه!

يجبُ أن أتوقفَ عن هذا الهراءِ الذي أكتبه. آن لهذا القلمِ الذي جرني أن يتعبَ، وقبلَ أن أتوقف عن هذا الهراء؛ يجب أن أقول للدائنين الكثر:

اغفروا لي، فليسَ لديّ ما يورثُ كي يُباعَ وتستوفونَ مِن خلاله، سوى بعضَ الكتب والثيابِ الرثةِ التي حتى أصحاب محال المستعمل -البالة- لَن يرضوا بها مماسحَ تنظيف.

هناك الكثير، الكثير مِمّن لن اغفرَ لهم في هذا الوجودِ الملوث.

لا تلوموني، بل لوموا كائنَ هذه الحضارةِ المترهلة.

 

إلهي الطيّب، سَتغفرُ لي أليسَ كَذلك؟!

التعليقات مغلقة.