النوستالجيا والظل؛ محمود درويش

23

تطل نافذتي على ليلة ليلاء قابعة خارج جدران هذه الغرفة، القمر يتوسط إطارها؛ بدرٌ في منتصف أطواره، خلف النافذة من الداخل أنا، وطاولتي، وكرسيٌ بلاستيكي مصمم بما يكفي ليكون مريحاً، ظهري متكئ عليه وعيناي نصب القمر، ربما من المفترض أن أكمل هذا السيناريو الليلي الدافئ بالحديث عن جمال القمر، ثم استدعى بعض الأبيات الشعرية المزدمة بذكره، أو بعض القصص الغابرة المضخمة بعبق الليل الذي يسد الأنوف هدوءً وحنيناً، وهذا ما سيحدث بالفعل، سأشارك القمر طقوسه التي اعتاد ممارستها مع القابعين أسفل حضوره المشرئب من بني البشر، لكن ليس قبل أن يبادر هو.. ألا يقرأ من حيرةٍ في عينيّ كم مرة عبرت المتاهة نفسها دون أن أتلمس بدايةً لنهايتها؟

بتُّ محملقةً في أدق تفاصيله التي لن أراها بعيني المجردة إنما بعيني خيالي، تذكرت ما علمونا اياه في المدرسة حول اعتقادات العلماء الخاطئة التي صححها لهم تطور علوم تصنيع الأدوات الكشفية، ك اللونار مير(lunar mare) وتعني بحار القمر، وهي أحد تضاريس القمر التي أطلق عليها هذا الاسم ظناً منهم أنها بحار؛ لقتامة لونها، لكن تمكنوا من رصدها فيما بعد فأظهر الرصد أنها سهول بازلتية، أي صخور نارية سوداء صنعت بدورها ذلك اللون القاتم.. رمشت مرة أو مرتين، مستدركة أني أسهبت في درس العلوم الممل هذا، فعدت أحملق.. أرنوه مسامراً ولا يبيني.. هل أفقد الأمل؟

فسرعان ما استجاب بحركة تشي بمكره، كما لو كان يختبر صبري عليه، ثم سألني:

_ ما الذي يقض مضجعك؟

أجيبه:

_ تؤلمني جملةٌ؟

_ وما هي؟

_ “الحنين ندبة في القلب، وبصمة بلدٍ على جسد”.. كم من البصمات والندبات تعتري قلوبنا وأجسادنا أيها القمر؟

_ لكن وبحسب أرشيف ذاكرتي فإن للجملة تكملة تقول: “لكن لا أحد يحن إلى جرحه، لا أحد يحن إلى وجع أو كابوس” فهل تحنين إلى بصمة بلدك الظالمة تلك على جسدك؟ ما الذي فعله من أجلك كي ينتابك الحنين إليه؟

_ استدعِ من أرشيفك المتهالك كل الذي قيل أيها القمر، وليس بعضه.

_ حسناً: “‏الحنين ندبة في القلب، وبصمة بلد على جسد. لكن لا أحد يحن إلى جرحه، لا أحد يحن إلى وجع أو كابوس” أكمل: “.. بل يحن إلى ما قبله، إلى زمان لا ألم فيه سوى ألم الملذات الأولى التي تذوّب الوقت كقطعة سكر في فنجان شاي”

_ إذاً فحنيني ليس للمكان الذي لفظني ورزح بحملي، بل إلى مكاني ما قبل نفيي.

ساد صمتٌ لدقائق، ثم كسره القمر قائلاً:

_ أما عن للنوستالجيا التي تعيشين فهي الحنين للذكريات الغابرة التي أراها نتيجة لنفيين، نفي عبر المكان ونفى عبر الزمان، وهما وإن كانا لا ينفكان عن بعضهما في الغالب، إلا أنهما إذا ما نظرتِ في الأمر بعيداً؛ ليسا الشيء ذاته. غالباً ما ينفى المرء نفياً زمانياً ك”نتيجة” لنفيٍ مكاني.

أنت لا تدركين حينما يسكنك الحنين، أنك إنما تشتاقِ الديار والأشجار والأنهار، وشاي المزرعة الأحمر، والبيض البلدي.. فلو كنت هناك هل كنت اشتاق؟

لن تفعلي، فكينونة المكان تتيح في كل وقت وآن أن يعاد شريط الذكريات، وبحضور ومشاركة كل ما يقطن ذلك الحيز من بشر وحجر.

النوستالجيا

_ أيها القمر، فما بال عقلي إذاً لا ينفك يغزوني بصور الماضي تلك إن كانت لن تعود؟ قل لي كيف السبيل للحفاظ على سكون ليلي وسكينة نفسي بمعزل عنها؟

_توهجت هالة القمر محاولا بذلك الإشارة إلى خطأ ارتكبته، يردف:

_ اياك وعزلها، أو محاولة نفيها، أنتِ مدينة لها لو تعلمين، مدينة لمدينة الذكريات تلك المكتظة بها إحدى أرشيفاتك، والتي لا تنفك تلاحقك، تماماً كالظل في قصيدة درويش الذي ما فتأ يلازمه، عندما قال:

كُنت أَمشي كان يمشي

كنت أَجلسُ كان يجلسُ

كنت أركضُ كان يركضُ

قلتُ: أخدعُهُ وأخلعُ معطفي الكُحْليَّ

قلَّدني، وألقي عنده معطفَهُ الرماديَّ

استدَرْتُ إلى الطريق الجانبيّةِ

فاستدار إلى الطريق الجانبيّةِ.

قلتُ: أخدعُهُ وأخرجُ من غروب مدينتي

فرأيتُهُ يمشي أمامي

في غروب مدينةٍ أخرى

_ يا لذكاء مقاربتك هذه أيها القمر! نعم.. كذاك الظل نحن والذكرى.

_ ربما النوستالحيا داءٌ، أذكر ما قاله أحد أسرى الذاكرة، روائي ورهينة مخيلته الأدبية، يقول في إحدى مقابلاته:  إني أسير الصورة الأولى وذاكرة الطفولة يضيف: مازلت وبعد كل هذه السنوات أكتب عن حلب رغم أنني أعيش في دمشق. فحلب لم تنته مني وأنا لم أنته منها.

_ يا قمر، لم أفهم حتى الآن، لأي شيء أدين؟ وكل ما هناك الداء!

_ بل الداء ظاهرها، وباطنها الدواء،

النوستالجيا داءٌ لكنها كأي شيء يصيبنا في سبيل إحيائنا. ترتفع درجة حرارة الجسم مصحوبة بألم، نتألم لكننا نعلم أنها مؤشر صحي وفأل خير غالباً، فعند تعاطي اللقاحات مثلاً ترتفع درجة حرارة الجسم كمؤشر حيوي على تنشيط كريات الدم البيضاء للمساعدة على محاربة مسبب المرض.

وتركني في دهشتي غارقة.. مضت دقيقة أو اثنتين، ثم قاطع شرودي:

وماذا عن الذكرى؟ أما تساءلت متى تحضر ولماذا؟

تغزوك الذكرى عندما لا يكون المكان ولا الزمان مهيئين لاحتضانها مجدداً لمحاولة إعادة سعادتك الآفلة. تغزوك الذكرى لأنك لست قادرة على إعادة الأرض، ويظل خيالك قادر على إعادة الصور التي اعتلت سطحها. وربما تغزوك الذكرى لأنك تطمأنين لفكرة العيش لبعض دقائق في كنف ماض معلوم المشاهد، واضح الملامح، غير مجهول فتخشينه ولا خارج إرادتك فتتوجسين منه! ألا يكفيك بهذا أماناً وأمنا؟!

عزيزتي، سيجلو في غضون دقائق النهار ليلنا ذو السمر الطويل، وكما الليل والنهار، تذكري أن تكوني؛ أعني مارسي طقوس الماضي قبل نومك، لكن تذكري أن تستيقظي لممارسة الحاضر من أجل المستقبل، دوماً وازني، وكلما داهمتك الذكريات بكثافة تثقل صدرك استحضري ما قاله جبران: من يشنقه صوت الماضي، لا يستطيع مخاطبة المستقبل!

النوستالجيا في أدب محمود درويش

 

التعليقات مغلقة.