الموسيقى والإنسان

16

نشأت الموسيقى مع نشأة الإنسان عندما حاول الانسانُ البدائيُّ اكتشاف ذاتهِ والتواصلَ مع المحيطِ من خلالِ حنجرته حيثُ كان يجهلُ كل الجهل كيفيةَ استخدامها كما بقيّةَ أعضائهِ وحواسه
فعزم على تدريبها وتطويرها إلى أن باتت تأخذ شكلاً أفضل وأكمل مع كلِّ تطوّرٍ يطرأ على الإنسان إلى أن أصبحت في عهدنا هذا آخر تلويحةٍ للحياةِ وخطوةُ المرءِ الواثقةِ على أرضِ الخيال
تبنّاها وتبنّتهُ إلى أن كوّن معها في رأسهِ محاكاةً دقيقةً للواقعِ الذي يتمناه
حيث أصبحَ بإمكان الفرد التخلي عن جميعِ من حولهِ والاكتفاء بمعزوفةٍ قادرة على انتشالهِ إلى عوالمَ أُخرى تنتمي إليهِ بكلِّ فصولها على عكس الواقع الذي يعتبر نفسهُ مجبراً على التواجدِ

ارتبطت الحياةُ بالموسيقى إلى حدٍّ لا يُمكن تخيّلهُ، بل أحياناً تشعرُ بأن الأرضَ عبارةٌ عن مجموعة لا متناهيةٍ من الآلات الموسيقية ولكلٍّ آلةٍ لغتها الخاصة التي تجعلها متفرّدةً،تُعرِّف ذاتها بذاتها وتشعرُ أيضاً أنَّ الموسيقى هي آخر موجةٍ يتمسّكُ الإنسانُ بتردداتها مع هذا الكمِّ الهائلِ من الحروب و لكننا لو نظرنا في تفاصيل تلك الحروبِ أيضاً سنجد أن هنالكَ موسيقى حزينة تنبعثُ من كل التفاصيل ستدرك أن هنالك صوتٌ للبكاء وللحنين أيضاً صوت وللغربةِ صوتٌ تتركهُ دعساتُ الهاربين من التلاشي على ممرّات المجهول إلا الموت الذي يُعدُّ الصمت الذي لا تنفعهُ محاكاةٌ او يُنقذهُ خيال، أي أن لكلِّ شيءٍ في هذهِ الأرض موسيقاه التي يحدِّدُ من خلالها هويَّتهُ الخاصة حتى وإن اختلطت ملامحه بملامحٍ أُخرى
وقد عرّف أفلاطون الموسيقى بأنها فنٌّ يحاكي الواقعَ وربط الإيقاعات الموسيقية ربطًا وثيقًا بالكون والعلاقات بين البشر فالعزف والإيقاع الناشز بالنسبة له يؤديان حتمًا إلى غياب الانسجام والأُلفة بين البشر. فهو يرى أن للإيقاع الموسيقي أثرًا كبيرًا على شخصية الأفراد بكلِّ تقلّباتها وانفعالاتها، ومن هنا ظهر اهتمامه وحرصه الشديدان على أهمية تسخير الموسيقى لمصلحة الفرد وتقويم سلوكه الأخلاقي. بينما جعل لها ارسطو مكانةً تعلو على الواقع وقيمةً أكبر من التي منحها أفلاطون للموسيقى على الرّغم من تأثرهِ الكبير واقتباسهِ جزءًا كبيراً في فلسفته الموسيقيةَ من أستاذهِ أفلاطون
في حين أنَّ ارسطو كسينوس لم يقبل أي معيار أخلاقي او ميتافيزيقي أو رياضي لتقييم الموسيقى واكتفى بالقيم الانسانية الجمالية لها، بينما البعضُ الآخر قام بتجريد الموسيقى من فضائلها ورفضَ تقبّل فكرة ارتباطها بالأخلاق ك أوسفلد شبينغلر
الذي اختلِفُ معهُ كثيراً جداً بتحقيرهِ للموسيقى وتجريدها من قيمتها وتأثيرها على النفس والروح والسلوك وقدرتها على محاربةِ الاكتئاب والتخفيفِ من أعراضهِ وقدرتها على منحهِ وجهةً أُخرى يستعينُ بها حينَ تضيقُ بهِ أسباب الراحة والسلام
فالصباحُ من وجهةِ نظري عصفور يشاطرُ فيروز التغريد والنسيمُ هو حفيفُ الشجر
والربيعُ هو تقبيلُ النحلِ لوجنات الورد
والخريفُ هو تنهيدةُ الأوراقِ التي أتمت مهمّتها في الحياة وتطلّعت نحو السلام
والشتاءُ أيضاَ هو مزيجٌ تخلّقَ من ارتطام جزيئاتِ المطر بزجاجِ النوافذ
والسعادةُ أطفالٌ تضحك
والشوقُ كمانٌ يعزفُ شريطَ ذكرياتٍ طويل
والخيبة أزيزٌ تركهُ البكاءُ معلّقاً بين الصمت والصراخ
فلكلِّ تلك التفاصيل فضلٌ على سلوكِ الإنسان وطبيعتهِ
وطريقةِ تعاملهِ مع محيطهِ وهي أسبابٌ كافيةٌ ليعلنَ بعد استسلامهِ المؤكدِ بدايةً جديدة ويسجّلَ ولادةً أُخرى لتفاصيلٍ مهما تكررت وجدَ فيها اختلافاُ ليُقنعَ ذاتهُ بأنه يشهدها للمرّةِ الأولى
وبالنسبةِ لي الموسيقى هي أنا، فعلاقتي بروحي وذاتي وذاكرتي طفولتي ومراهقتي كتبي وأقلامي وهي الوطن الذي حملتهُ معي على متنِ أغنية
والأمُّ التي احتفظتُ بها في قلبي على هيئةِ ضحكةٍ ودعاء .

وأنتم ماذا تعني لكم الموسيقى؟

التعليقات مغلقة.