4 أبواب… الدلالات اللفظية عند أحمد ابن فارس

40

نشأة اللغة بحسب ابن فارس:

كان ابن فارس يرى أن اللغة إلهية المنشأ، وذلك لان الله تعالى علّم آدم عليه السلام الأسماء كلها وما تدل عليه، ولذلك يرى انها يجب أن تكون واضحة محددة لا يصلها نقصُ أو التباس في مدلولاتها، وذلك منذ أن تعاقب الأنبياء على تعليمها للناس، واستدل ابن فارس بذلك على آية قرآنية عظيمة من كتاب الله ليدلل على صحة طرحه، فقال تعالى:” خلق الإنسان علمه البيان”  (سورة الرحمن، الآية 3). هذا الاعتقاد جعل ابن فارس يسهب في البحث في الدلالات اللفظية للغة العربية، فإلهية اللغة ستعطيها ميزة غير محدودة في التنوع.

شمولية اللغة العربية:

ولقد خص الله تعالى اللسان العربي بالثناء على غيره من الألسنة وذلك اعتماداً على أن اللغات الباقية قاصرة مقارنة باللغة العربية، حيث أن اللغة العربية أغناها بالألفاظ والدلالات اللفظية والمعاني والصور، فقال ابن فارس: ” وإن أردت أن سائر اللغات تبين إبانة اللغة العربية فهذا غلط”. فاللغة العربية تحتوي على حركات الإعراب التي ميزت اللغة العربية فقال ابن فارس في الإعراب:” فإن الإعراب هو الفارق بين المعاني فترى ان القائل إذا قال: ما أحسن زيد، لم يفرق بين التعجب والاستفهام والذم إلا بالإعراب”. في عرض دراسة ابن فارس للغة العربية كان قد تعرض لأكثر من مئة قضية صعبة صاغها من ألفاظ التضاد او المشترك اللغوي ليضني بها الفقهاء ويظهر عجزهم عن إدراك الغريب، وهنا توسع بالدلالات اللفظية وإدراك الغريب من الكلمات ليظهر أن لها دلالات واضحة.

الاشتقاق وأنواع الدلالات اللفظية بحسب ابن فارس:

توسع ابن فارس في الاشتقاق وكان محور تفكيره أثناء صياغته للدلالات اللغوية فهو لم يكن يقر بمعنى أي كلمة إلا بعد اخضاعها للاشتقاق، وحكم على العديد من الألفاظ بالغموض وذلك لتمنعها عن قواعد الاشتقاق، وفي بحثنا هذا سنتناول أهم القضايا التي شملها ابن فارس لتوسيع الدلالات اللفظية في خضم بحثه عنها وإخراجها عن نطاقها المتعارف عليه.

النوع الأول:

من الألفاظ التي أُعميت دلالتها لتمنعه على الاشتقاق عند العرب قولهم: هَيد مالك، فقد وردت هذه العبارة في كلامهم المنثور والمنظوم مغلفة بغموض كبير، وبالمقابل فإن الاستعانة بالاشتقاق لا تقدم العون الكافي لأن كلمة هَيد في الأساس تدل على التحريك والازعاج، فقال ابن فارس:” هُدت الشيء تعني حركته ، وكلمة يهيدني أزعجني، والهيدان هو الجبان، وكذلك تستعمل كلمة هيد عند سوق الإبل، وهيَّد في السير أي أنه أسرع وحثّ الخطى. لقد أقر ابن فارس بالغموض في دلالات طائفة كبيرة من الكلمات أو العبارات التي احتار العلماء في فهمها وتأويلها واعتمدوا على الاحتمال وإمكانية حدوث المعنى فيها، وقد استدل ابن فارس أيضاً بمقولة: “كذ بك كذا” فقد نصت أغلب كتب اللغة على أنها تفيد الإغراء، ولما كان مذهب ابن فارس في هذه الأحكام هو الاشتقاق فقال: ” ألا يجب أن نسأل العرب عن معنى الإغراء فنقول كذبك كذا” ونحن نعلم أن قول كذب يبتعد كل البعد في الظاهر عن باب الإغراء”. وساق ابن فارس الكثير من الأمثلة في هذا الباب وأغلبها من الألفاظ العصية على القياس ومنها: هلا، وأرحبي، وعاج، ياعاط ويعاط …. إلخ. وهكذا رأى ابن فارس أن تلك الألفاظ كانت في يوم من الأيام كانت واضحة الدلالة في لهجات الأقوام العربية ودقيقة التحديد، ثم باد هؤلاء القوم ورحلوا وتركوا ألفاظهم ليتم التوسع في تخمين الدلالات اللفظية لها.

النوع الثاني:

وهذا التوسع في الدلالات اللفظية يعود لألفاظ ارتبطت بحوادث حصلت، وبقيت الكلمات بعد اندثار ونسيان تلك الحوادث فاستعملوا اللفظ بمدلوله المرتبط في الحادثة، فقالت العرب: رفع فلان عقيرته عن الجهر بالصوت. والعقر هو الذبح أو القطع و المعقور هو المذبوح، فماهي الصلة بين الدلالتين؟ قال ابن فارس وأجاب عن الصلة أن رفع العقيرة هو رفع الصوت وأصل هذه الكلمة مرتبط بحادثة حيث أن رجلا عقرت قدمه فرفعها لأعلى وذهب يصيح بأعلى صوته، فقيل بعد ذلك رفع عقيرته. وقياساً على المذكور آنفاً يمكن أن نورد طائفة من الأمثال عن هذه الدلالات والتي لا تتضح معانيها إلا بافتضاح القصص التي تقود إليها وتفصح عن مغزاها.

النوع الثالث:

من أبواب التوسع في الدلالات اللفظية ما جاء بتضمن المعنى لضده، كاستعمال العرب المدح بأسلوب الذم، فالعربي قد يقول كلمة ظاهرها السباب وباطنها الإعجاب فقال ابن فارس في ذلك : ” فمن سنن العرب مخالفة ظاهر اللفظ لباطنه، كقولهم عند المدح: ” قاتله الله ما أشهره” فهم يقولون هذا لكنهم لا يريدون وقوعه، ونذكر على ذلك أيضاً قول إمرئ القيس رامياً: فهو لا تنمي رميته ماله لا عدّ في نفره. والمقصود بهذا البيت بأنه إذا عد أتباعه لا يعد منهم ودعا عليه بالموت كي لا يشمله العد. وكذلك قول العرب: هَوضت أنه، ثكلته، وهَبِلته … إلخ وهذا يكون عند التعجب في من فعل الرجل وقوله. والعرب قد تحمّل العبارة الواحدة دلالتين: دلالة الدعاء على المخاطب ودلالة الإعجاب به، ويستدل ابن فارس على ذلك بقولهم: لا أبا لكَ، وتأتي في سبيل المدح والإعجاب.

 الباب الرابع:

في توسع الدلالات اللفظية عند ابن فارس ما ذكره في أسماء الزمان من اقتصار وتطاول، والسعة والضيق في ألفاظ الدهر والحقبة والحين والأوان، ولعل الذي لفت انتباهه لذلك هو اشتغاله بالأنواء وتأليفه في تقسيم السنة إلى شهور والشهر لأيام والأيام لساعات كما في الرسائل التي بلغنا اسمها ولم يصلنا نصها، وهو ما دفع ابن فارس للسؤال عن دلالات ظروف غير محددة وأزمنة لم يتم ضبط أجلها فقال ابن فارس بذلك: ” ومن المشتبه به الذي لا يقال فيه اليوم إلا بالتقريب والاحتمال، و ما هو بغريب اللفظ لكن الوقوف على كنهه معتاص قولنا: الحين والزمان والدهر والأوان”. ويغلب على الظن أن الغموض في بعض تلك الدلالات يفيد التوسع فيها وأن العرب لم تكن عاجزة عن التحديد بل كانت راغبة فيه حيناً ولم ترغب حيناً أخرى، فقد حددت الأزمنة بالشهر والسنة واليوم تحديداً وذلك لتعلم عدد السنين والحساب لكنها مع ذلك حددتها تحديداً غير دقيق، فقالت العرب عن المدة بمثل من أمثالها: ” لم يجلس عنده إلا فواق ناقة” فرغبت العرب هنا عن تحديد الاسم المناسب للمدة الزمنية، فتركت هذا للمتلقي ليحدد كما يروق له ليكون فيه بذلك متنفس للقارئ في تحديدها.

الدلالات اللفظية

الخاتمة:

نستشف مما ذُكر أن في العربية دلالات ومعانٍ كثيرة للفظ الواحد، وأن الصورة الواحدة تحتمل في تفسيرها عدة معانٍ وأن ظاهر اللفظ قد يكون شيء وباطنه أشياء أخرى، وقد عكف ابن فارس في أبحاثه ومدلولاته على توسيع تلك الدلالات اللفظية وإخراجها من نطاقها الضيق التي حيزت فيه ظاهراً للمدى الأوسع الذي يعطينا الحقيقة الكاملة عن دلالة تلك الألفاظ ومكنوناتها.

التعليقات مغلقة.