الدبلوماسية في العلاقات الدولية

469

مقدمة

يعتبر البعض أن الدبلوماسية من الأدوات الرئيسية التي تستخدمها الدولة لتحقيق أهداف سياستها الخارجية، وتقوم بأدائها للتأثير على الدول والجماعات لتستميلها وكسب تأييدها، وهناك اختلافات حول المفاهيم الخاصة بالدبلوماسية، كما دار الجدل حول نشأتها وتطورها، فالدبلوماسية ليست حديثة كما يعتقد البعض، بل هي قديمة واستخدمت في الأمم القديمة بدءاً من اليونان والإغريق، كما استخدمها العرب في علاقاتهم مع الأمم المجاورة لهم.

شهدت الدبلوماسية عبر التاريخ مراحل من التطور، وهو ما سنحاول الكشف عنه في هذه الورقة البحثية، عبر طرح التساؤل التالي: متى نشأت الدبلوماسية وما هي المراحل التي مرت بها حتى وصلت إلى ما هي عليه في العصر الحديث؟ وننطلق في مقالنا هذا من فرضية مفادها أن الدبلوماسية كانت تستخدم في الأمم السالفة لتنظيم العلاقات بين الدول الكبرى والممالك العظمى وحتى بين القبائل، واستخدمت في عقد الاتفاقات المختلفة بين تلك الحضارات في العديد من الجوانب التي تتصل بالحياة السياسة والعسكرية والاجتماعية، ونهدف في هذا البحث إلى التعريف بالدبلوماسية عند الأمم القديمة والتطرق لمفهومها في الوقت الراهن، والتعرف على تاريخ نشأتها، وتحديد مراحل التطور التي مرت بها بدءاً من ظهورها وصولاً إلى العصر الحديث.

مفهوم الدبلوماسية وتطوره

تعريف الدبلوماسية

عرف هارولد نيكلسون الدبلوماسية بأنها إدارة العلاقات الدولية عن طريق المفاوضات أو طريقة معالجة وإدارة هذه العلاقات عن طريق السفراء والممثلين الدبلوماسيين، وهي عمل وفن الدبلوماسيين، وعرفها هنري كيسنجر: “هي تكييف الاختلافات من خلال المفاوضات”، وعرفها جورج كينان: “هي عملية الاتصال بين الحكومات”، في حين رأى دي إيرثي وأوسيها بأنها: “فن تطبيق مبادئ القانون الدبلوماسي”، وعرفها فيليب كاييه: “هي الوسيلة التي يتبعها أشخاص القانون الدولي لتسيير الشؤون الخارجية بالوسائل السلمية وخاصة من خلال المفاوضات”[1].

وعرف شارل كالفو الدبلوماسية بأنها علم توجيه العلاقات الدولية في قاموسه الخاص بمصطلحات القانون الدولي العام والخاص الذي وضعه في 1885م، وقال في نص التعريف: “إنها علم العلاقات القائمة بين مختلف الدول، والناتجة عن المصالح المتبادلة، وعن مبادئ القانون الدولي ونصوص المعاهدات والاتفاقات”.

كما تعني المفاوضة التي كانت مستخدمة بشكل دائم قبل مصطلح الدبلوماسية، فالدبلوماسية هي المفاوضات التي كانت تدري بين ممثلي دولتين من أجل حل خلاف بينهما أو تهدف إلى التمهيد إلى اتفاق دولي بينهما، وعرفها الفقيه ريفييه بأنها “علم تمثيل الدول وفن المفاوضات”، والدبلوماسية تعني الدهاء أو الذكاء، وذلك بحسب ما عرفها الدبلوماسي البريطاني سير إرنست ساتو في قوله: “الدبلوماسية هي استعمال الذكاء والخبرة في إدارة العلاقات الرسمية بين الدول المستقلة، وأحياناً في العلاقات بين الدول غير المستقلة”.

ونلاحظ أن معاوية بن أبي سفيان قد سبق ساتو في استخدام الدبلوماسية بمعنى الذكاء والدهاء بقوله: “لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا رخوها شدّدتها، وإن شدّدوها أرخيتها”، أما الدبلوماسية في العصر الحديث فقد عرفها الفقيه شارل دي مارتينس بأنها: “علم العلاقات الخارجية أو الشؤون الخارجية للدول، وبمعنى أخص هي علم وفن المفاوضات، في حين عرّفها الدبلوماسي البريطاني هارولد نيكلسون في قاموس إكسفورد بأنها “إدارة العلاقات الدولية عبر المفاوضات، وهي طريقة لمعالجة وإدارة هذه العلاقات عن طريق السفراء والممثلين الدبلوماسيين، فهي عمل وفن الدبلوماسي، ولعل التعريف الأشمل الجامع لمفهوم الدبلوماسية ما قدمه الدكتور عزيز شكري من خلال توضيحه معناها بشكل مختصر بأنها: “فن وعلم وإدارة العلاقات الدولية”[2].

نشأة الدبلوماسية

تعود الدبلوماسية في جذورها إلى العصور القديمة من التاريخ البشري، وكانت نشأتها ضرورة استجابةً لتنظيم العلاقات بين القبائل والشعوب، وكانت ممارسة الدبلوماسية حاضرةً عند المصريين والبابليين والآشوريين، حيث مارست تلك الأمم من خلال المبعوثين الدبلوماسيين دوراً سياسياً يعتبر في مقدمة الأدوار السياسية الجلية في المجتمعات الإنسانية، أما مهمة المبعوث الدبلوماسي فكانت بهدف إنشاء وإقامة التفاهم حول قضايا ومسائل محل خلاف عليها بين الأمم، كتقسيم المياه أو تحديد مناطق الصيد بين الأمم لتأمين حياة شعوبهم.

إن الدبلوماسية كانت تستخدم في إقامة التحالفات بين طرفين ضد ثالث، أو إعلان الحرب أو عقد الصلح وتبادل الأسرى أو المناقشات حول الاتفاقيات التجارية، وكان اليونان والرومان قد حاولوا تنظيم هذه المهام وضبطها بواسطة مبعوثين كانوا يطلقون عليهم مسمى (egatis)، كما استمرت الكنيسة المسيحية في انتهاج نفس السياسة عندما اعتمدت مبعوثين مقيمين لها[3].

ويعود أصل كلمة الدبلوماسية إلى اليونانية، وهي كلمة مشتقة من كلمة دبلوم أو دبلون، والتي تعني طبق أو ثني، فقد كانت تختم جوازات السفر ورخص المرور على طرق الإمبراطورية الرومانية، وكانت قوائم المسافرين والبضائع على شكل صفائح معدنية لها وجهين، وكانت تذاكر المرور تسمى “دبلومات”، وتوسعت كلمة دبلوما حتى شملت وثائق رسمية غير معدنية، ويمنح حاملها مزايا، او تضم اتفاقات مع جماعات أو قبائل أجنبية، وانتقلت الدبلوماسية اليونانية إلى اللاتينية ومن ثم إلى اللغات الأوروبية ثم إلى اللغة العربية[4].

ويبدو أن الدبلوماسية قد ظهرا كفمهوم في القرن الأول قبل الميلاد، حيث عرفها شيشرون بأن كلمة “دبلوما” استخدمت بمعنى التوصية الرسمية التي تمنح للأفراد القادمين إلى البلاد الرومانية، وكانوا يبرزونها للسماح لهم بالمرور، ولتلقي معاملة خاصة[5].

أما الدبلوماسية فقد عرفت في اللاتينية بمعنى الوثيقة الرسمية التي تتضمن صفة المبعوث الرسمي والمهمة التي أوكلت إليه، والتوصيات الصادرة بشأنه من الحاكم، بهدف تقديمه وحسن استقباله أو تسيير تحركاته بين الأقاليم المختلفة، وكانت هذه الشهادات أو الوثائق عبارة عن أوراق عبارة عن قطع من الحديد تسمى “دبلوما”، أما المعنى الثاني الذي تداوله الرومان لكلمة دبلوماسية فكان يشير إلى طباع المبعوث أو السفير، وكانت تدل إلى الرجل المنافق ذو الوجهين[6].

ومع التطور الزمني وبلوغ العلاقات الدولية منعرجات مختلفة، وظهور مدارس العلاقات الدولية التي تعنى بالعلاقات بين الدول بدأ ظهور تعريفات حديثة للدبلوماسية، فقد عرفت الدبلوماسية في المفهوم الفرنسي بأنها تدل على مبعوث أو مفوض أي الشخص المرسل في مهمة، أما كملة سفير فتعني التابع، وهو لقب كان يطلق على ممثلي الملوك، وكان الإسبان أول من استخدم كلمة سفارة أو سفير بعد نقلها عن المفهوم الكنسي بمعنى الخادم أو السفارة، واتسع مفهوم الدبلوماسية فيما بعد، وأصبح يشير إلى عدة معانٍ، وهي: معنى المهمة، معنى المفاوضات، ومعنى الدهاء والكياسة، ومعنى السياسة الخارجية[7].

كما أن التاريخ العربي يشير إلى أن العرب كانوا قد مارسوا الدبلوماسية قبل مجيء الإسلام، حيث مارسوا العمل الدبلوماسي عبر إنشاء العلاقات بمختلف أنواعها على المستوى الداخلي والمستوى الخارجي، وعملوا على إقامة روابط مع الأمم المجاورة لهم بسبب الموقع الجغرافي لهم والتقارب المكاني مع غيرهم، فأقاموا العلاقات مع الدول المحيطة بهم من الأطراف، وكانت العلاقات الدبلوماسية التي تربط بين العرب وحضارات حمير وسبأ ومعين وبلاد سوريا الطبيعية وبلاد فارس وبلاد إفريقيا والشعوب التي كانت تعيش في تلك المناطق حاضرة على مدار سنوات طويلة.

كان العرب يستخدمون الرسل على اعتبار أنها أفضل وسيلة للاتصال وإقامة العلاقات، فكانوا يرسلونهم لنقل وجهة نظرهم في مسألة ما، ويتم التفاوض وتبادل الآراء مع الطرف الآخر إلى حين تحقيق الهدف الذي أرسل من أجله[8].

التطور التاريخي للدبلوماسية

الدبلوماسية ليست جديدة بل هي قديمة عرفتها المجتمعات الإنسانية في كافة الحضارات حول العالم، وبدأت الدبلوماسية على شكل اتصالات بين القبائل والجماعات البشرية الأولى عبر الرسل التي تطلبت الظروف أو المناسبات قيامهم بمهام نقل الرسائل أو التبليغات بين القبائل، أو إرسال رؤساء القبائل بعض الأشخاص المقربين، أو إرسال ملك لأحد أفراد حاشيته بمهمة إبلاغ أوامره أو رغباته لأفراد شعبه في البقاع النائية من أرضه.

الدبلوماسية

عرفت الدبلوماسية لدى الإغريق من خلال إقامة العلاقات بين المدن اليونانية المستقلة، بشكل مقارب للعلاقات الدبلوماسية المعاصرة، وكانت في وقت السلم قد اتجهت إلى التعاهد والتحكيم، وإيفاد الممثلين الدبلوماسيين، أما في وقت الحرب فقد خضعت العلاقات بين المدن اليونانية لضوابط خاصة، وورث الرومان ما عرفه اليونان من نظم دبلوماسية، لكن لم ينجح الرومان في تطوير أساليب دبلوماسية جديدة في العلاقات الدولية، وظلت الدبلوماسية على الشكل القديم لدى اليونان.

شهدت العلاقات الدبلوماسية في عصر الإسلام تطورات عديدة في أغراضها ونظمها ووسائلها، وفقاً لتطور ظروف الدولة وعلاقاتها وطبيعة التوازنات ومقتضياتها، وقد استخدمت الدبلوماسية في الإسلام بدءاً من عصر النبي والخلفاء الراشدين واستمرت في عصر الدولة الأموية، أما الدبلوماسية الدائمة فقد بدأت منذ عصر النهضة، حيث ترتب على تقاطع المصالح السياسية والاقتصادية والتجارية، وتطور أساليب النهضة الصناعية والهجرات بين مختلف الدول، لذلك توجب تعدد الاتصالات الدبلوماسية، ومن ثم استدامتها بهدف رعاية مصالح الرعايا وحمايتهم من قبل كل دولة لدى الأخرى.

ومرت الدبلوماسية بالعديد من المراحل عبر الزمن، وهي أربعة مراحل، نجملها على النحو التالي:

المرحلة الأولى

ظهرت الدبلوماسية بدايةً في الحضارات القديمة كالحضارة الفرعونية في مصر، والحضارة اليونانية والرومانية وصولاً إلى الحضارة الإسلامية، وتميزت تلك المرحلة بأن الدبلوماسية كانت عبارة عن وظيفة مؤقتة تسعى إلى تحقيق هدف معين، كعقد اتفاق أو إرسال رسالة عن طريق رسول، وتنتهي بإنتهاء المهمة، ولم يكن الرسول في تلك الفترة يتمتع بأي حصانة تحميه من الخطر الذي من المحتمل حدوثه له إثر توصيله لرسائل أمته إلى الأمم الأخرى.

المرحلة الثانية

كانت تلك المرحلة قد ظهرت على شكل مدرسة أو اتجاه عُرف في فرنسا، وهو ما تعارف عليه بإسم “ريشيليو” الذي أسسها، واستمرت ثلاثة قرون من الزمن، وتميزت تلك المرحلة بالكياسة والاستمرارية، كما أنها تدرجت بالأهمية في منح المعرفة والخبرة، وأصبحت تدرس بشكل حصري لبعض الأشخاص ممن لديهم ميزات خاصة كسرعة البديهة والفراسة والذكاء، وكان الدبلوماسي في تلك المرحلة على علم كامل بالمصالح المحلية، وكان على اطلاع واسع بأساليب التفاوض، وكانت تلك الدبلوماسية ذات طابع سري، كما أنها كانت متحررة من ضعط الرأي العام، ولم تكن ملزمة بوقت معين كما كانت عليه المرحلة الأولى.

المرحلة الثالثة

بدأت هذه الدبلوماسية بعد الحرب العالمية الأولى، وكان هذا الظهور علنياً، وكانت بداية المرحلة إثر إعلان الرئيس الأمريكي ويلسن لأربعة عشرة مبدئاً، كما وجه انتقاداته للدبلوماسية السرية، وتميزت هذه المرحلة بتأثير الرأي العام فيها، والتشجيع على إعلان المعاهدات الدولية بشكل صريح وعلني والتعريف بتلك المعاهدات للمجتمع الدولي عبر تسجيل الاتفاقيات في عصبة الأمم ومن ثم الأمم المتحدة بعد تشكيها في منتصف أربعينات القرن العشرين.

الدبلوماسية

المرحلة الرابعة

 

الدبلوماسية

عرفت هذه المرحلة باسم “دبلوماسية المؤتمرات والمنظمات الدولية”، وبرزت مع بداية القرن العشرين، وارتبطت بشكل مباشر بالتنظيم الدولي المتمثل في عصبة الأمم ثم الأمم المتحدة، وحملت هذه المرحلة ميزات منها تشعب مجال العمل الدبلوماسي، واستخدام أسلوب الخطابة الموجه، كما شهدت ظهور فئة من الدبلوماسيين المتخصصين في الميدان الدولي، إلى جانب بروز دور الرأي العام واشتراك المرأة في العمل الدبلوماسي، ودخول مسائل وقضايا جديدة إلى مجال العمل الدبلوماسي كالتسلح والفضاء والبحار.

التعليقات مغلقة.