إلى أبي الذي لن يقرأَ كلماتي: هذا فعلُ الأخوّةِ الملوّثةِ

3

 

يا أبي، ما تعلمُه ما هُو إلا القليلُ. ما تعلَمُه لا يتجاوز أنّهم أحالونا إلى أسفنجةٍ تغُبُّ الذلَّ وتعبِّئُ العارَ.

لا تدري أنّهم ذبحوا روحي بسكينٍ صدِئةٍ غير مَشحوذةٍ!

أنا الذي أحرثُ ساعاتٍ طوالاً لأجل رغيفٍ معجونٍ بالفجيعةِ، أنا الذي أُهان بشكلٍ مُستدام مِن الدائنين والمُؤجِّرين الذين طردوني، الذين لأجلِهم أقطعُ مسافاتٍ كبيرةً، وأتسلّل كلصٍّ للبيت؛ حتى لا أصطدمَ بهم!

انحناءُ ظهري، وسقوطُ رأسي على صدري، ليس بسبب الأمراضِ التي تعرفُها فقط؛ بل مِن كثرةِ إمعاني في الأرضِ وحاوياتِ النفاياتِ على أملٍ كسيح أن أجد ما يَنفعُ ويُزيحُ ثِقَلَ الطلب عن صدري.

لم يبالوا بسنوات مَرضِك واحتياجك إلى العلاج، أنت الذي أغدَقتهم بالعطايا سابقًا، وعَلّمتهم الحبَّ والإيثارَ. صَمتَ أمّي الصارخُ خَشيةَ ألسنتهم الدَّنِسة؛ يَطيبُ لهم.

تركوا الصِّغار يَتسوّلون أحلامَهم المُعلَّقة بنظراتٍ كَسيرة.

أيُّ تسمّمٍ حلّ بثَدي أمّي؟!

ما حَيّرني العدمُ بقدر ما حيرتني هكذا أخوّة!

ما الذي حدَث لهم بَعد الفجيعة الكُبرى؟

ليس بالإمكان تَحرُّري من الحياة، لأنّي مَغروزٌ في الأرض بسببكم، وبَقاؤكم على حافةِ الحَياة مَرهوناً بعملي، بي.

حينما أتت الفرصةُ اليتيمةُ لانتشالنا ممّا نحن به، سَدَدْتُ الثقوبَ التي أحدثوها بقلبي، طلبتُ مباركتَك ودعواتِكَ قبل ذهابي لهم وطَرْقِ بابِهم، رَفضْتَ، وحينما رأيتَ دمعتي تسقُطُ، قَبِلتَ وقاسمتني دمعةً أخرى منك، أنت الذي تحبُّني وأعشقكَ.

ذهبتُ لهم بطلب حتى لا تفوتَنا الفرصةُ الأخيرةُ للخروجِ من الجحيم.

رَفضوا بكلِّ صَفاقةٍ مع إيغالٍ بالإهانة!

كذلك، يا أبي، قالوا لي ما لن أنساه بقيةَ عمري، وما قالوه حُفِرَ بإزميل “دانتي” في الذاكرة!

لن أقولَ ما قالوه يا أبي؛ حتى لا يَصِلك عن طريق ثرثراتِ الفارغين مِن أبناء القبيلة. الفارغين من أبناءِ قبيلتِنا سيَفرحون بكلماتي الخرائبيّةِ والانهزاميّةِ هذه، سيأخذونها لمجالسهم ويُعيدون تشكيلَها ويتداولونَها لأيامٍ طوال لا يُدرك مُنتهاها.

الآن عرفت يا أبي لمَ رفضتَ بدايةً؛ حتى لا يموتَ الأملُ الذي كان يُحتَضرُ في صدري.

تركونا في الجحيم، أقفلوا الأبوابَ، ورموا المِفتاحَ في مَعِدة “قارون”.

كافأهم الشيطانُ بقَفلِ قلوبِهم وصَبَّ عليها الصّديدَ أبَدَ هذا الدَّهر المَسعور.

في تلك اللّيلة الحَميميّة، ليتني النطفةُ التي قهَرت رغبتَك، لتذهبَ وتَتحلّلَ في أيِّ مكان! ليت عُضوَك خذَلك، لم يُسعفْك، قُطِعَ مِنك!

ليت رَحِمَ أمي، تشظّتْ وتهشّمَتْ، وتفجّرت؛ ولا كنتُ ولا وُجِدتُ!

أخلعُ اسمَ العائلة، أمزقه، أكوِّره، أحوِّله لعلبة “مولوتوف” وأرميه بوجوههم لتَحرقَ أقنعتَهم.

إزاءَ ما يحدُثُ اليومَ، علماءُ النّفْسِ، أجدُهم أشبهَ بطرزانَ مُصابٍ بشلَل الأطفالِ!

هذه الأخوّةُ الملوثة بكلّها تُدنِّسُ الهيكلَ الأسريَّ المُقدَّس.

كم أتمنى أن أُعيد “كارل أورف” ليبتدِعَ “كارمينا بورانا” جديدةً، تليقُ وتُنصِفُ، أمامَ هذا السّقوطِ اللّا نهائيّ.

مُنذ اليوم، يا أبي، ألتحفُ الصّمتَ؛ لمُواجهةِ الوجهِ الدّاعرِ والدّامي لهذه الحياةِ، لمُجابهة خُوارِ المُتَشدّقين بقِيَم الأخلاق الزّئبقيّةِ

التعليقات مغلقة.