الأدب هو أسلوبٌ راقٍ يمنحُ الإنسان القدرة على التعبير عمّا يجولُ في خاطرهِ وما يعتريه من مشاعرَ عميقةٍ دائمةٍ كانت أو لحظيّةً سطحية بطريقةٍ مهندمة، فالأدب هو أسمى طريقةٍ لترتيب فوضى المشاعر واضطراباتِ الحواسِ ودبلجةِ الحروب وتهذيبِ الثورات بأساليب عبقريةٍ، حتى جعلتْ من الأوراقُ جيوشاً وللأقلامِ وقعاً أشدُّ من وقع البنادق والسيوف.
قديماً حيث كان الأدب يحشُدُ حزنَ شعبٍ كاملٍ على أناملِ كاتب واشتهر العديدُ من الكتّابِ الثوار الذين آمنوا بالقلم وكتبوا الحرب بلا خوفٍ حتى أنَّ بعضهم قُتِل وبعضهم الآخر نُفي واستمر في الكتابةِ غير آبهٍ بمنفاه وأيضاً منهم من برعَ في قولبةِ الأفراحِ وأضافَ الكثيرَ من أساليبِ الترفيهِ الراقي ليجعل من الأبجديةِ دواءً شافياً ونغماً تطربُ له القلوب قبل المسامع
إلى أن أصبحت الكتب والمسارحُ ملاذاً أخيراً للباحثينَ عن ذواتهم و للباحثينَ عن أفراحهم وأحزانهم و لمن يبحثون عن المواساةِ الخفيةِ وعن حروفٍ تفهمُ ما يُخبئون في دواخلهم بدون شكوى، مما جعل الأدبَ يزدهر ازدهاراً مُلفتاً، بل أصبحَ السبب في ازدهار الأمم والحضارات.
إلا أنَّ ازديادَ عدد الكتّابِ الوهميين وتساهل دور النشر وانتشار ظاهرةِ النشر العشوائية مع تدهورِ الأوضاعِ الاقتصادية والحياتيةِ في الآونةِ الأخيرةِ أدى إلى تقلّصِ دور الأدب، حيث أنٌها أصبحت أشبهَ بصيحةٍ جديدةٍ أو مرضٍ مُزمنٍ وهو الشيء الذي جعل البعض يظنون بأنّ الكتابةَ شيءٌ سهل ويمكن تحقيقهُ من خلال القراءةِ وجعل البعضَ الآخر يلجأ إليها لسدِّ فراغهِ دون مراعاةِ شروط الأدب واحترام الأُسسِ التي قام عليها والقيَم التي حرص الكتّاب والروائيون والشعراء في العصورِ المنقضيةِ على المحافظةِ عليها، فظنوا أنَّ إصدارَ كتابٍ لا يحتاجُ إلا لغلافٍ برّاقٍ وعنوانٍ مُلفت الأمر الذي جعل الهواة ومن يجيدون دورَ التقمّصِ ارتداءِ قبّعةِ الكاتب وأحرقوا غليونَ الرغبةِ بالشهرةِ فأخذت الرفوف تدريجياً تغصُّ بالكتبِ التي تحمل من الكتب كلَّ الصفاتِ باستثناء أهمها وهو المضمون الجيد، مما يجعلُ منها مجموعةَ أوراقٍ مزيّنةٍ لا تُسمن ولا تُغني من جوعٍ فكريٍّ اعتمد أصحابها على إثارةِ فضول الفئةِ التي تهتم بهيئةِ الكتاب متناسيةً ما يمكن أن يقدّمهُ لها مضمونهُ.
هذه العشوائية أثارت سخط القرّاءِ الحقيقيين وأقصد بالحقيقيين هنا أولئك الذين يُفضّلون اقتناءَ أوراقٍ بلا عناوين شريطةَ أن تقدّمَ لهم غذاءً فكرياً متكاملاً مُعافى من الأخطاء اللغويةِ والإملائية، ووصفوا ما تحويهِ مكتباتُ اليوم من كتبٍ لأسماءٍ تضعُ على جبهتها مصابيحاً لتُضيء ولكن بلا فائدة بخدعةِ إهدار الوقت والمال ووجودها يعتبر عالةً على كاهلِ الأدب العربي، وبأنها السببُ الرئيسيُّ في تراجعِ الذوق العام وانحدار المستوى الأدبي وانخفاض سقف المنافسةِ بين الأدباء وبالتالي ولادةِ جيلٍ من الكتب التي سيأبى التاريخ تبنّي سطراً واحداً منها وولادةِ جيلٍ من القرّاءِ والكتّابِ بإمكانياتٍ محدودةٍ وأفقٍ ضيّقٍ لا يمكنهُ الصمودُ أمام توالي السنونِ وارتفاعِ مستوى الأدب الغربي بكلِّ فئاته.
لذلك نرى لجوء القرّاء الى المكتبات الإلكترونية التي وصفوها بأنها الأقل كلفةً والأكثر وضوحاً وأنها الطريقُ الوحيدُ الآمن الذي يحمي القارئ من الوقوع في خدعةِ الغلاف المبهرج والعناوين المنمّقة التي لا تمتُّ لذاكرة الكتابِ بصلة، كما لجأ الأغلبيةُ إلى تجاهلِ الأدب العربي على الرغم من أن ولادة الأدب كانت على يد العرب واتجهوا إلى قراءةِ الأدب الغربي الذي حافظ على مستواهُ بل نهضَ بالأدبِ لأنه رفض أن يكون سلعةً لجني المال وكسب الشهرة، وهنا يبدو اللومُ واضحاً موجّهاً بالتحديد إلى دور النشر التي خفّضت المعايير والشروط إلى أدنى مستوى، فقط لتحقيق مكاسب مادّيةٍ ولو كان ذلك على حساب القارئ والكاتب الحقيقي والأدب والتاريخ العربي أجمع، فوضعت سمعةَ الأدب العربيَّ على المحك وتهاونتْ في تطبيقِ شروطهِ وفرطت بالأمانةَ بطريقةٍ تجعل القارئ ينفِرُ من ارتيادِ المكتبةِ وعدمِ الثقةِ بما تقدّمهُ تلك الدور من مؤلفات، لذا يجبُ على دور النشر النظر بجدّيةٍ والإمعان في مضمون الكتبِ المقدمةِ لها وتمريرها إلى اخصّائيين صارمين يمكنهم الحكم على مضمون الكتاب قبل بهرجتهِ ك نوعٍ من الإنصاف للقارئ وإفساح المجال للكاتب الحقيقي ببذل أقصى ما لديه ليستحق لقب الكاتب أو الشاعر أو الروائي عن جدارة.
الكتابُ نعمةٌ لا تقلُّ عن نعمةِ النور، ولعلاجِ الظلمةِ التي تطفّلت على أدبنا العربي وحاولت التعتيم على تاريخهِ المُشرقِ علينا اتّباع صراط النور الذي رسمه لنا الأدباء السابقون فالقارئ كائنٌ مُضيءٌ يعرفُ تماماً خلفَ أيٍّ غمامةٍ يمكن للشمس أن تختبئ لذا على الكاتب أن يعي تماماً ما تعنيه كلمةُ كاتب ويفكّرُ ألفَ مرّةٍ ويحاسبُ نفسه كثيراً ويتعب كثيراً قبل أن يُسلِّمَ شعلةَ أفكاره للشريحةِ التي لا يمكنها أن تتهاون بما يخصّّ غذاء أفكارها، وكما قال هنري ميلر “الكتاب ليس فقط صديقاً بل يصنع لك أصدقاء وأضيفُ أنه قد يصنعُ لك إن لم تُحسن صياغتهُ أعداءً أكثر مما سيصنعهُ لك من أصدقاء”.
التعليقات مغلقة.