عطف المنفى وقهر الأوطان

19

لم يكن الحلم كبيراً جداً، كان فقط عبارة عن وطنٍ كريمٍ يحتوينا، لا يستمتع بقتلنا، ولا تتسلل أجهزة مخابراته ليلاً رفقة الخفافيش إلى مخادعنا، وطن لا يُلزمنا أن نفدي بأرواحنا ودمائنا فخامة الرئيس فيه. لم يكن يظن كلُّ واحدٍ فينا أنَّ هذا الحلم سيكلفنا منافي أبدية تشبه ببعدها جزيرة سانت هيلانا الجاثمة في المحيط الهادئ، والتي اعتاد البريطانيون نفي خصومهم إليها.

كانت تلك المنافي صعبة المنال ومتعددة الأشكال، فمنها ما هو على شكل خيمة في إحدى المخيمات المنفية عند طرف الأرض والغريبة عن مجتمعها، والشكل الآخر منها يكون على شكل إقامة في بلاد الروم أو التُرك، والكثير من تلك المنافي كان على شكل قبر تم الوصول إليه عن طريق أحد قوارب الموت، أو بسبب الموت جوعاً وعطشاً في غابات أوروبا الشرقية، أو بطعنة عنصري يرى نفسه ابن سام والبقية أبناء التراب الفاني. إنَّ المحظوظين من هؤلاء الذين اختاروا المقامرة بحياتهم، يبتسم لهم سَعدُهم ويصلون إلى الجهة المنشودة، وذلك بعد أن أفرغوا جيوبهم وجعبة أهلهم من آخر قرش مخبَّأ للأيام السوداء التي يتحسبون منها، تلك القروش والدراهم والدنانير تم دفعها لمهرب البشر والذي يكون ذو سحنة مميزة، فوجهه مكفهر وقد نزعت منه الإنسانية، ويشبه لحد التطابق وجوه العسكر العرب والذين عاشوا على الهزائم والنياشين في سبعينيات القرن الماضي، فيوصل ضحاياه إلى وجهتهم وكأنهم طرود توصيل بلا أرواح، مع العلم أنَّ ذاك المهرب هو لاجئ سابق ومن نفس الوطن، وقد مورست عليه نفس الاضطهاد سابقاً، لكنه أبى إلا أن يعيد سيرة جلاديه الذين هجروه في أحداث الثمانينات من القرن الماضي.

في مخفر الشرطة الذي يسلم فيه ذلك الناجي نفسه، يستطيع المحققون ببساطة مشاهدة قهر الشرق الأوسط في وجهه، فملامحه تفضحه، وفي حال كان عربي بملامح شقراء وعيون ملونة، فسيورد له أحد المحققين_ على الأقل_ جملة من قبيل: لا يظهر عليك بأنك عربي، وتترافق هذه الجملة مع ابتسامة لا تكاد تخلو من ارتياح. بعد التحقيق المطول والنبش في ماضي الآباء والأجداد، يتم تحويله لمكان آخر، ويتم إعطائه ورقة صغيرة فيها صورته الكظيمة، وهذه الورقة تسمح له بالتنقل وكذلك تعد بمثابة ورقة شهادة ميلاد لشخص وصل لمنتصف الثلاثينيات من العمر.

تبدأ الآن رحلة أخرى من رحلات المنفى، إنها رحلة الاندماج، تلك الرحلة التي تجعل منك_ رغماً عنك_ كائناً شغوفاً ونشيطاً، فما من أحد في هذه البلاد الغريبة يتقن لغة الضاد، ومع بداية تهجئتك للحروف والكلمات، تبدأ التفاعل مع المجتمع الجديد لتكون بذلك تشبه الطفل الكبير، ثم تزداد شعبيةً كلما صارت ذخيرة لسانك من الكلمات أكثر، ولا يكاد يقضُّ مضجع راحتك وأنت تسبح في حنِّية المنفى سوى  حدث عابر لا ينفك يذكرك بقتامة الوطن، ذاك الحدث قد يتمثل بدورية شرطة اعتيادية على الطريق، حيث تقوم بالتأكد من هوية المارَّة بشكل روتيني، فتتداعى الذكريات بسرعة تتوافق مع اضطراب نبضات القلب، إنها ذكريات حواجز الرئيس المفدى، ولا ينقص هذا المشهد سوى صورة القائد الخارق الموجودة خلف رجال الشرطة، لقد كان الوطن قد تخلَّد كأسطورة في رأس ذلك اللاجئ كلما مرَّ أمامه شيء يُذكره بعظمته القمعية.

تتواتر الأيام، ويبقى الوطن يُطارد اللجوء و يتزاحم كلاهما في مخيلة اللاجئ الناجح وكأنهما قد مُزجا مع صلصاله، وهذا التدافع لا ينقطع، ففي كل يوم يرد إلى مسامعه خبر عن وفاة قريب أو عزيز، أو خبرٌ عن حيٍّ من أحياء مدينته قد تحول إلى مقبرة كبيرة بفِعل أحد البراميل المتفجرة التي ألقتها طائرات القائد المُقاوم، فيحاول صديقنا أن ينخلع من جلده ويصم آذانه عن كل ما يوجع عقله من أحداث في وطنه، فيلجأ لوسائل كثيرة في سبيل هذا، وخصوصاً تلك الوسائل الغير مباحة، والتي تعلم منها الكثير في منفاه الجديد.

بعد الاندماج الكبير، يتحسن حال البطل بطريقة أفضل بكثير عن وقت قدومه، فالآن أصبح له جيران يتبادل معهم تحايا الصباح والمساء و جلسات تتخللها فناجين قهوة عربية كان قد أحضرها من دكَّانٍ صاحبه لاجئ عربي سابق، وأصبح يقود سيارته ويذهب يومياً لعمله بشكل منتظم، ويحرص على عدم التأخر ليثبت للموظفين من أبناء البلد أنه أكثر التزاما منهم، وأن كونه لاجئاً لا يعني أنهم أفضل منه بشيء، ويتعامل مع مؤسسة الضمان الاجتماعي، التي توفر له الطبابة والتعليم،  ويدفع ما عليه من ضرائب بشكل صارم جداً ليثبت أنه مواطنٌ صالح، ولم يكن يفوت فرصة إلقاء التحية على رجال الشرطة والأمن كلما رآهم، وذلك ليثبت لنفسه أنهم رجال عاديون وليسوا نصف إله كما اعتاد رؤيتهم في وطنه.

قريباً سيصبح هذا اللاجئ مؤهل، ويتزوج إحداهن، وغالباً قد تكون الزوجة لاجئة مثله أو تكون في منفى آخر ويحضرها لمنفاه عبر معاملة ورقية مُضنية، وسيكون عنده أبناء يرثون منه ملامحه العربية ولغة المنفى، سيذهبون لمدارسهم لكن بدون شعور الخوف الذي كان يعيشه والدهم عندما كان يحضر دروس اللغة والاندماج، فهم يرون هذا البلد بغير عيون والدهم والذي سيكون بطمأنينة تامة عند ذهابهم للمدرسة، لن يخاف أن يذهبوا لمدرستهم كطلاب ويعودون منها أشلاء بفعل أحد صواريخ القيصر الحاقد بافل الأول، والذي كان يعربد في وطنه حباً بالمياه الدافئة، ويوماً بعد يوم يدرك الوالد أنه أصبح يعيش هو وأسرته حياة طبيعية كما كل البشر خارج وطنه.

في إحدى المساءات، كان اللاجئ العتيق يجلس على شرفة منزله وعيونه ترقب المدى، ويزاحم عقله سؤال يؤرقه، سؤال تحول لشيء يشبه الوسواس القهري، هذا السؤال يُجبره على المقارنة ويقول له: أيهما أكثر عطفاً وحُنوّاً، المنفى أم الوطن؟

التعليقات مغلقة.