مثّل الموقع الجغرافي لجزيرة سيرلانكا_ سيلان سابقاً_ إشكالية حقيقية للاقتصاد في هذا البلد المأزوم¹ سياسياً واقتصادياً في الأصل، فهذه الدولة التي يزيد تعداد سكانها عن 21 مليون نسمة، كان موقعها يشكل لها نقمةً اقتصادية لوجودها بين قطبين اقتصاديين شبه متناحرين في آسيا وهما: الهند والصين، ومع أن سيرلانكا تتمتع بعلاقات جيدة مع الطرفين، إلا أن اقتصادها يعاني من الحالة التنافسية المحمومة بينهما، و لم يتوقف هذا التأثير هنا، فتشابك الاقتصاد السريلانكي مع الاقتصاد الصيني، جعل تأثير المنافسة بين الصين والولايات المتحدة عامل سلبي على الاقتصاد، فلم تكن سيرلانكا ضمن اتفاقية التجارة عبر الباسيفيكي والتي تمت بين الولايات المتحدة والعديد من الدول، ومنها دول آسيوية كماليزيا وسنغافورة، حيث استفادت تلك الدول من تخفيضات الرسوم الجمركية ضمن هذا التكتل التجاري.
يبدو حال سيرلانكا اقتصادياً كما غالبية دول العالم الثالث التي عانت من اجتياح العولمة، فنتيجة للوضع السياسي القائم فيها والمعتمد على فكرة الديمقراطية المركزية وتركز السُلطات في يد الفرد الواحد والحزب الواحد، ساهمت العولمة بتوزيع غير عادل للثروات، واستفادت منه فئة قليلة من عموم الشعب، كما أن سيرلانكا من الدول المتأخرة في مجال الذكاء الصناعي في الاقتصاد، وهو ما جعلها من الاقتصادات الكلاسيكية التي بدأت تعاني ككل مع بداية القرن الحادي والعشرين نتيجة لتأخرها فيه، وهو الأمر الذي جعل اقتصادها رهينة للدول التي تمتلك التكنولوجيا كجارتيها الصين واليابان.
الواقع الجيوسياسي لسيريلانكا وضع اقتصادها بين المطرقة الأمريكية والسندان الصيني، وإذا ما رجعنا قليلاً للوراء سنجد أن الاقتصاد فيها متأزم من قبل الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم في العام 2008م، ويلاحظ خلال العقد الأخير وجود عجز سنوي في الميزانية يقترب من ملياري دولار أمريكي، ومما زاد الوضع سوءاً حصول جائحة كورونا والإغلاقات التي حصلت حول العالم، كما أن الغزو الروسي لأوكرانيا زاد المشكلة الاقتصادية نتيجة عدة عوامل، منها انكفاء السياح الروس والأوكران عن سريلانكا، وانخفاض الصادرات لكلا البلدين وخصوصاً سلعة الشاي، لكن العامل الأهم كان ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً، وهو الأمر الذي زاد عجز الميزانية، مما يجعل الدولة في وضعية العاجز عن سداد الديون الخارجية المرتبطة بقروض قديمة يعود غالبيتها للصين، هذه القروض التي استثمرت في مشاريع لا تعود بالنفع على الاقتصاد، بل كانت بيد فئة معينة من السياسيين والمتنفذين. كل المتغيرات السابقة بالإضافة لعدم كفاءة الحكومة التي تقود البلاد منذ 2019، والتي لم تفي بوعودها الاقتصادية، كله مُجتمعاً فجَّر الأزمة الاقتصادية الراهنة، والتي يمكن أن تؤدي للإفلاس الكامل للدولة. وفي حال أرادت سريلانكا بدء خطة للتعافي ستتوجه إما للصين والتي سعت لتثبيت هيمنتها على سريلانكا، فأغدقت عليها القروض لكن بنسب فائدة كبيرة، وهو ما جعل الأخيرة تغرق أكثر في الأزمة، وسيعرضها هذا التوجه لاحتمالية عقوبات أمريكية في ظل صراع الهيمنة بينها وبين الصين، أو التوجه بشكل كامل للاقتراض من الولايات المتحدة بصفة القروض التنموية، وهو ما سيضعها تحت المعايير الأمريكية في الاقتراض، كالحصول على استثمارات غير مباشرة والخضوع لمعيار الشفافية، وتحسين الوضع السياسي القائم.
لن تمر الأزمة الحالية بسهولة على البلاد، فالوضع يتجه للتأزم السياسي، فالاحتجاجات في الشارع ضد الرئيس وحكومته الحالية مستمرة، ولن يشفع للسلطة الحاكمة قيام الرئيس بإقالة الوزراء، حيث أبقى على رئيس الوزراء وهو شقيقه في منصبه، وهذا سيورد رسالة للشارع المحتج أن الرئيس يحاول الإبقاء على مقاليد السلطة في يده، ويبدو أنه هناك ثلاث احتمالات سياسية للمرحلة المقبلة:
- استقالة الرئيس ورئيس الوزراء وانسحابهم من المشهد السياسي وحل البرلمان، أو إقصاء الرئيس عن طريق البرلمان، والدعوة لانتخابات مبكرة، وتشكيل حكومة مقبولة لدى كل الأطراف الفاعلة في الاقتصاد السريلانكي، وخصوصاً الولايات المتحدة والصين.
- تسليم السلطة بشكل كامل للمعارضة كمرحلة انتقالية لاحتواء الحراك الشعبي الحاصل، وإعطاء دور لوجوه جديدة بعد فشل الحكومة الذريع اقتصادياً.
- تعنت الرئيس وبقاؤه بمنصبه، وهو الأمر الذي سيزيد الاحتجاجات ويؤدي لتفاقم الأزمة والتي ستتحول فيما بعد لصراع بين المؤسسة العسكرية والمدنية، والتي قد تتطور بدورها لحرب أهلية، وخصوصاً أن البلاد تقوم على بنية مجتمعية هشة.
يبدو الحلين الأول والثاني غير متاحين حسب مجريات الأحداث في سريلانكا، والاحتمال الثالث هو المرجح، والأمور تتجه للتصعيد شعبياً، وستبقى ضمن هذا النطاق إلا إذا حصل تدخل فاعل من مجلس الأمن بقيادة الولايات المتحدة، أو تدخل صيني مباشر ينعكس على الاقتصاد بشكل فوري، وهو الأمر الذي سيؤدي لتخفيض الاحتقان السياسي الحاصل.
التعليقات مغلقة.