قضايا الأدب الجاهلي
يشكل عصر ما قبل الإسلام مرحلة هامة في الأدب العربي، وكان أكثر ما عرف في هذا العصر الأدب الجاهلي ، وما ورد فيه من حديث عن الحياة الجاهلية التي تضمنت الحروب والأحلاف وأعلام الجاهلية من السادة والحكماء والشعراء والكهنة والمعتقدات.
ونظراً لغزارة الأدب في العصر الجاهلي بالمواضيع المختلفة فقد وقف العديد من النقاد على أهم القضايا التي تناولها الأدب الجاهلي في مضامينه المختلفة، والتي تم طرحها عبر الشعر في معظمه حيث أن الشعر في ذلك العصر هو الذي كان سائداً كنوع أدبي واضح ومستخدم عند الجاهليين تعبيراً عن الواقع الذي يعيشه الجاهليون، ومن القضايا التي تناولها الباحثون والنقّاد في مسائل الأدب الجاهلي يأتي في مقدمتها مسألة النحل والانتحال والوضع، وقد درس هذه الظاهرة قديماً ابن سلّام الجمحي في كتابه طبقات فحول الشعراء.
النحل والانتحال والوضع
النحل و الانتحال والوضع تدور في معناها حول التزوير وتزييف الحقائق، والنحل في الشعر معناه نسبة الشعر إلى غير قائله الحقيقي، والانتحال أن يدعي رجل شعر غيره وينسبه إلى نفسه، وقد قال الأعشى في ذلك:
فما أنا أم انتحالي القوا في بعد المشيب كفى ذلك عاراً
أما الوضع فمعناه أعم من ذلك سواء كان نحلاً أم انتحالاً، وقضية الانتحال في المفهوم الشائع تعني القضية التي تتعلق بوضع الشعر ونسبته إلى غير ما هو له مطلقاً، فهي لا تتعلق بنسبة الشعر إلى النفس وهو للغير فحسب، بل هي نسبة إلى الغير مطلقاً[1].
كانت القبائل تفتخر وتعتز بما لها من نتاج أدبي، وتتيه على غيرها بالكثير من المحفوظ لها منه، وكان أشراف القوم يفتخرون بما قيل فيهم وفي أسلافهم من روائع القول وفصيح البيان، فتسابق الكل في جمع ما كان لهم ولذويهم وأسلافهم من أقوال، إلا أن الرواة أحسنوا في هذا الاهتمام من الجميع، فتسابقوا في ذلك الأمر، من جمع ورواية، وتنافسوا في الإكثار من ذلك ليفوق كل منهم غيره في الحظوة والمنزلة والمكافأة.
من الطبيعي أن يحتوي ما جمعه الرواة على الأدب المنحول والقول الموضوع، ولم تكن هذه الملاحظة أن تغيب عن الثقات من العلماء والرواة منذ بدأ جمع الأدب الجاهلي وتدوينه، فقد تنبهوا إلى ذلك ووقفوا على الكثير من النصوص التي لم يقبلوها، واستطاعوا التمييز ما بين الأصلي والمختلق، وتبيين ما هو صحيح وما هو زائف، ومن ذلك على سبيل المثال ما روي عن أبي عبيدة أنه قال: “كان قراد بن حنش من شعراء غطفان، وكان جيد الشعر قليله، وكانت شعراء غطفان تغير على شعره فتأخذه وتدعيه”، ويروى أن أبا عمرو بن العلاء ذكر أن ذا الإصبع العدواني قال يرثي قومه:
وليس المرء في شيءٍ من الإبرام والنقض
إذا يفعل شيئاً خا له يقضى وما يقضي
جديد العيش ملبوس وقد يوشك أن ينضي
وبيّن الرواة أنه لا يصح من أبيات ذي الإصبع التضادية هذه إلا هذه الأبيات التي أنشدها وأن في سائرها منحول[2].
كان ابن سلّام الجمحي أول من درس قضية الانتحال في الشعر وبيّن آثارها في كتابه، إذ أورد فيه الكثير من الملاحظات والآراء المتصلة بهذه القضية، فقد أقّر ابن سلّام بالوضع في الأدب الجاهلي وركز على وجوده بشكل لافت، فقال: “وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه، ولا حجة في عربية، ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج، ولا مثل يضرب”، وأشار إلى أن هذه الأشعار انتشرت من كتاب إلى كتاب، ويعود ذلك إلى عدم تحقق بعض العلماء منها، ونشرها على حالها، كما ذكر ابن سلّام أسباب الوضع والانتحال في الأدب الجاهلي ووضح أنها تعود إلى سببين:
العصبية القبلية:
وهي واحدة من الأسباب التي دعت بعض القبائل إلى وضع الضعر ونسبتها إلى شعرائها في العصر الجاهلي، وذلك لأنها رأت قلة شعرها مقارنةً بالقبائل الأخرى، ويقول ابن سلّام: “فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض القبائل شعر شعرائهم، وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلّت وقائعهم وأشعارهم، فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسنة شعرائهم”[3].
الرواة الوضّاعون:
يقول ابن سلّام: “ثم كانت الرواة بعد، فزادوا في الأشعار التي قيلت”. وقسمهم ابن سلّام إلى قسم يجيد الشعر ويحسن نصّه، وقادر على نظم الشعر وإضافتها إلى شعر الجاهليين، ومنهم خلف الأحمر البصري وحمّاد الراوية الكوفي، وقسم لا يجيد الشعر ولا يحسن نظمه، بل يقوم بنسخ الشعر المنحول ويرويه في كتبه، وهؤلاء هم رواة السير والأخبار، كابن إسحاق في السيرة النبوية، وقد نقده ابن سلّام فقال فيه: “وكان ممن أفسد الشعر وهجّنه وحمل كل غثاء منه محمد بن إسحاق بن يسار، وكان أكثر علمه بالمغازي والسير وغير ذلك، فقبل الناس على الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، أتينا به فأحمله، ولم يكن ذلك له عذراً”.
وكان ابن سلّام قد ذكر أن الشعر المصنوع لا يخفى على العلماء بالشعر وأن أشكل عليهم أحياناً، فقال: “وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة ولا ما وضعوا، ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل البادية من ولد الشعراء، أو الرجل ليس من ولدهم، فيشكل ذلك بعض الإشكال”[4].
كما قال أيضاً: “وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم، كسائر أصناف العلم والصناعات … من ذلك اللؤلؤ والياقوت لا تعرفه بصفة ولا وزن، دون المعاينة ممن يبصره، فكذلك الشعر يعلمه أهل العلم به”.
وذكر ابن سلّام علماء اللغة ورواة الأشعار بالتفصيل، ومقدرتهم على الشعر، وتمكنهم منه، ومعرفتهم الجيدة من الردئية، وصحيحه من سقيمه، وصحته من كذبه، وأغلبهم النحاة وعلماء اللغة، وذلك لما لهم صلة مباشرة بالشعر لما يحتاجون إليه في الاستشهاد وتقعيد القواعد، خاصةً في الوقت المبكر الذي شهد نشاط تدوين علوم اللغة العربية.
ومن القضايا الهامة التي برزت في الأدب الجاهلي هي ظاهرة الصعاليك، والصعلكة بالمفهوم اللغوي تأتي بمعنى الفقر، والصعلوك هو الفقير الذي لا مال له ولا اعتماد، ويقال تصلعك الرجل إذا افتقر، ومن الدلائل على وجود الصعاليك في الأدب الجاهلي قول جابر بن ثعلبة الطائي:
كان الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى ولم يكُ صعلوكاً إذا ما تمولا
وفي نفس المعنى يأتي قول حاتم الطائي[5]:
غنينا زماناً بالتصعلك والغِنى فكلا سقاناه بكأسيهما الدهرُ
فما زادنا بغياً على ذي قرابة غنانا ولا أزرى بإحسابنا الفقرُ
ولم تقف لفظة الصعلكة عند دلالتها اللغوية، بل أخذت تدل على من يتجردون من عباءة الانضواء تحت القبيلة، وتفرغوا للغارات وقطع الطرق وسموا بالصعاليك، وقسموا في الجاهلية إلى ثلاث مجموعات:
- مجموعة من الخلعاء ممن خلعتهم قبيلتهم لكثرة مشاكلهم مثل حاجز الأزدي وقيس بن الحدادية وأبي طمحان القيني.
- مجموعة من أبناء الحبشيات السود، ممن نبذهم آباؤهم ولم يلحقوهم بهم لعار ولادتهم مثل السليك بن السلكة، وتأبط شراً والشنفرى، وكانوا يشتركون مع أمهاتهم في سواد البشرة، وأطلق عليهم مسمى (أغربة العرب)
- مجموعة لم تكن من الخلعاء ولا من أبناء الإماء الحبشيات، غير أنها احترفت الصعلكة احترافاً وهذه المجموعة كانت تتشكل من أفراد مثل عروة بن الورد العبسي، أو قد تكون قبيلة كاملة مثل قبيلتي هذيل وفهم اللتين كانتا تنزلان بالقرب من مكة والطائف على التوالي[6].
فيما يتعلق بحياة الصعاليك فإنهم يتميزون بعدة أمور منها:
- الفقر وحدة الجوع: وهي صفة بارزة عندهم، فجميع الصعاليك بمن فيهم عروة بن الورد الذي يعد زعيمهم كانوا فقراء، ونجد في شعره وصفاً لحاله ومعاناته في سبيل الغنى من جهد ومشقة من أجل نفسه ومن أجل أصحابه من الصعاليك[7]، فيقول:
دعيني للغنى أسعى فإنّي رأيت الناس شرهم الفقيرُ
وأبعدهم وأهونهم عليهم وإن أمسى له حسبٌ وخيرُ
ويقصيه الندي وتزدريه حليلته وينهره الصغيرُ
- الثورة على الواقع الاجتماعي والابتعاد عن الحياة القبلية وما فيها من أعراف ظالمة، واللجوء إلى الطبيعة وما فيها من حياة فطرية بحيث يعدون الحياة مع الذئاب والحيوانات المفترسة أفضل من الحياة مع قومهم الذين طرودهم واحتقروهم، ومن ذلك يقول الشنفرى في ديوانه[8]:
أقيموا بني أمي صدرو مطيكم فإني إلى قومٍ سواكم أميلُ
فقد خمّت الحاجات والليل مقمرٌ وشدّ لطيات مطايا وأرحلُ
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى متغزلُ
ولي دونكم أهلون سيد عملسٍ وأرقط زهلول وعرفاء جيالِ
هم الأهل لا مستودع السر ذائعٌ لديهم ولا الجاني بما جر يخذلُ
- الفخر بالشجاعة والعدو السريع حيث أنهم كانوا مغامرين لا يأبهون بالموت وفي حالة مطاردة دائمة وكر وفر وتضرب بهم الأمثال في شدة العدو، وامتازوا جميعهم بسرعة الحركة والخفة والخبرة بطرق الصحراء، ويقول عروة بن الورد رداً على زوجته التي كانت تلومه على حياته القائمة على المخاطر:
أقلي علي اللوم يا بنت منذرٍ ونامي وإن لم تشتهي النوم فاسهري
ذريني ونفسي، أم حسانٍ إنني بها قبل أن لا أملك البيع مشتري
أحاديث تبقى، والفتى غير خالدٍ إذا هو أمسى هامةً فوق صيرِ
ذريني أطوف في البلاد لعلني أخليك أو أغنيك عن سوء محضري
فإن فاز سهم المنية لم أكن جزوعاً وهل عن ذلك متأخرِ
وهناك العديد من الصفات الأخرى التي اتصف بها الصعاليك في الجاهلية واتضحت تلك الصفات في الأدب الجاهلي مما كانوا ينشدونه من شعر وما كانت تنقل عنهم من أخبار، ومن الصفات الأخرى التي حملها الصعاليك أنهم يتحملون الصعاب ابتعاداً عن الذل، وكانوا من أصحاب الإيثار والكرم، كما أنهم لم يجدوا فيما يقومون به من عمل أي عيب.
التعليقات مغلقة.